يطرح محمد عبّو في كتابه "ضدّ التّيار: تجربة من داخل الحكم"، تجربته الشخصية خلال فترة مهمة من تاريخ تونس السّياسي الرّاهن، معبرًا عن موقف حزبه، التّيار الديمقراطي، تجاه تلك الفترة. كما يوضح التحديات السياسية والصعوبات التي واجهتها الحكومة، ويناقش تعاملها مع أزمة كورونا، بالإضافة إلى الصعوبات والإصلاحات الإدارية التي جرت خلال فترة الوباء، وصولًا إلى تقديم الحكومة استقالتها.
هشام الشّرفي [1]
تكمن أهمّية هذا الكتاب في كونه يناقش فترة سياسيّة محورية، إذ شهدت تونس خلالها انتخابات تشريعيّة يوم 6 أكتوبر/تشرين الأوّل 2019، انتهت بفوز حركة النّهضة بأغلبيّة الأصوات، تلاها حزب قلب تونس، مما سمح للحركة بترشيح الحبيب الجملي لرئاسة الحكومة.
ورغم فوز الحركة، لم تتمكن من الحصول على ثقة البرلمان للموافقة على الحكومة، مما أعاد المبادرة إلى رئيس الجمهورية لتعيين رئيس حكومة فاختار إلياس الفخفاخ. ويبيّن هذا الموقف مدى تشتّت المشهد السياسي وتشظيه بطريقة تجعل من الصّعب ممارسة الحكم دون تحالفات، وهو ما فشلت حركة النهضة في تحقيقه.
يعبّر محمد عبّو في هذا الكتاب عن موقفه الشّخصي أحيانًا، وعن موقف حزبه "التّيار الدّيمقراطي" أحيانًا أخرى، ودوره في الحياة السياسيّة خلال تلك الفترة. يُعدّ عبو من الوجوه السّياسيّة التي برزت بعد الثّورة التّونسية، خاصّة عند مشاركته كوزير لدى رئيس الحكومة مكلّف بالإصلاح الإداري إثر انتخابات المجلس التّأسيسي سنة 2011،[2] ثمّ في خطّة وزير دولة لدى رئيس الحكومة مكلف بالوظيفة العموميّة والحوكمة ومكافحة الفساد.[3] كما عُرف عنه معارضته لحكم الرئيس السّابق زين العابدين بن علي، سواء كناشط سياسي أو ضمن نشاطه الحقوقي كمحام، وهو ما بيّنه في مختلف فصول كتابه.
أصدر عبّو مذكّراته "ضدّ التيار: تجربة من داخل الحكم"، سنة 2021،[4] أي بعد سنة واحدة تقريبًا من مغادرة منصبه الوزاري. منح ذلك عبو امتياز تذكّر الأحداث للتقارب الزّمني بين وقوعها وتدوينها.
وقد قسّم مذكراته إلى مقدّمة وثلاثة أجزاء وخاتمة. اهتمّ في القسم الأوّل "تشكيل الحكومة"، بالمرحلة التي تلت الانتخابات، وهي الفترة التي شهدت مفاوضات اختيار رئيس الحكومة. أمّا القسم الثّاني والأهم من الكتاب، فقد قسّمه إلى ثماني فصول، ووسمه بـ"التّسيير والإنجازات". وكما يعبّر العنوان، ركّز عبّو في هذا القسم على مختلف أفكار ومشاريع الحكومة وما تمكّنوا من إنجازه وما فشلوا فيه. ويأتي القسم الثّالث والأخير "سقوط الحكومة" ليوضّح أسباب استقالة الحكومة وموقف الكاتب من دوافع ذلك، خاصّة ملف تضارب المصالح الذي اتُّهم به رئيس الحكومة، مما دفعه إلى تقديم استقالة الحكومة.
من الإعلان عن النتائج إلى تشكيل الحكومة
منذ الإعلان عن نتائج الانتخابات التشريعيّة، عبّر محمد عبّو عن موقف حزبه القاضي برفض المشاركة في الحكومة المزمع تشكيلها من قبل حركة النّهضة، الحزب الفائز بأغلبية الأصوات. وقد عدَّ هذا القرار، الذي اتُّخذ بعد اجتماع عقده المكتب السياسي للتيار الدّيمقراطي، مريحًا له نظرًا لموقفه الرافض للمشاركة في الحكم مع حركة النّهضة، مؤكدًا أنّ "الوضع الذي تمر به البلاد لا يمكن أن تكون النهضة طرفًا فيه"، خاصّة إذا كانت هي الطّرف المهيمن.[5]
تشكّل هذا الرّأي بعد تجربة سابقة في حكومة حمّادي الجبالي سنة 2011، التي أدت في نهاية المطاف إلى تقديم استقالته لعدم اقتناعه بجديّة الطّرف المقابل في عمليّة الإصلاح، وانشغاله فقد بالحفاظ على استمرارهم في الحكم قبل التفكير في اتخاذ أي إجراءات إصلاحيّة. وقد تدعّم موقفه طوال السنوات التسع التالية للثورة التونسيّة، التي كانت حركة النّهضة فاعلًا رئيسيًا فيها، إذ لم يخف الكاتب طوال فصول الكتاب قلقه وتوجّسه من الممارسات التي أبدتها قيادات الحركة. حتى أنّه خصص فصلا فرعيًا بعنوان "تجاوز خلافات الماضي" لتوضيح نوعيّة العلاقة التي جمعته بأعضاء حركة النهضة، وكيف تراجعت العلاقة المتميّزة التي كانت تجمعه بمنتسبيها قبل الثورة إلى تأزّمها وانعدام الثّقة بين الطّرفين بعد ممارسة الحكم.[6]
بعد اتصالات رسمية وغير رسمية وضغوطات متنوعة، تراجع حزب التيار الديمقراطي عن قرار عدم المشاركة، تغليبًا للمصلحة العامة. وبدأ في عملية التفاوض للبحث في سبل المشاركة في الحكومة المزمع تشكيلها، ومحاولة تجاوز الخلافات. وكانت فرضيتا تشكيل الحكومة تتمثلان في إمّا تحالف النهضة مع حزب قلب تونس، المتحصل على المرتبة الثانية في الانتخابات، والذي يحظى بمعارضة شديدة من قبل العديد من الفاعلين السياسيين ومختلف شرائح المجتمع التونسي المهتمة بالشأن العام، أو تحالف النهضة والتيار مع أحزاب أخرى تنسب إلى الثورة.
وفي خضم هذه المفاوضات، اشترط حزب التيار إسناد وزارات الداخلية والعدل والإصلاح الإداري لمرشحيه، على أن يكون رئيس الحكومة مستقلًا عن الأحزاب المشاركة في الحكم، ومشهودًا له بالكفاءة والنزاهة. وقد عدّ عبّو هذه الشروط موضوعية، بل ضرورية، من أجل إمكانية فرض مسار الإصلاح وحرصًا على عدم عرقلة مشروعهم من قبل رئيس الحكومة. [7]
وباقتراح من حركة النهضة، كلّف رئيس الجمهورية قيس سعيّد الحبيب الجملي بتشكيل الحكومة في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2019. وقد تعمّق عبّو في سرد مختلف مراحل التفاوض التي خاضها مع الجملي، فكان أول لقاء معه في 19 نوفمبر/ تشرين الثاني، من أجل تقديم مقترحاته وتصوّراته لبرامج الحكومة وشروطهم للمشاركة. تلاه لقاءان آخران في 23 و27 من نفس الشهر. وقد أسفرت المفاوضات عن رفض التيار الديمقراطي المشاركة في حكومة الحبيب الجملي، التي فشلت في تحصيل ثقة البرلمان، إذ صوّت ضدّها 134 نائبًا مقابل 72 نائبًا مع تحفّظ ثلاثة نواب.
وبالرّغم من رفض الفخفاخ إسناد الوزارات السّيادية إلى التّيار الدّيمقراطي والتّوجه نحو تحييدها عن الأحزاب السّياسية، وافق التّيار في نهاية المطاف على المشاركة في الحكومة بعد انعقاد مجلسه الوطني في 13 فبراير/ شباط 2020، رغمًا عن وجود بعض التحفظات التي عبّر عنها عبّو .ثم أبدت حركة النّهضة يوم 19 فبراير/ شباط موافقتها على المشاركة، ليعرض الفخفاخ أعضاء حكومته على رئيس الجمهورية في مرحلة أولى، لتُمنح الثّقة في مرحلة ثانية بعد أربعة أشهر وعشرين يومًا من غلق صناديق الاقتراع. وتعدّ هذه المدّة طويلة نسبيًا في مسار تشكيل الحكومة.
سياسة الحكومة مع فيروس كوفيد- 19
ارتبطت حكومة الفخفاخ بمجابهة فيروس كورونا، فبعد تسلّمها لمهامها بثلاثة أيام فقط، وتحديدًا في 2 مارس/آذار 2020، سُجلت أوّل إصابة بكوفيد-19 في تونس. وسارعت السّلطات إلى اتخاذ الإجراءات الوقائية اللّازمة بعد يومين من رصد أول حالة للحدّ من انتشار الفيروس. شملت هذه القرارات منع الرحلات القادمة من بعض الدّول التي سجلت أعدادًا كبيرة من الإصابات، والدّعوة إلى التقيّد بالإجراءات الوقائية، وتقليص التجمعات، وتأجيل التظاهرات والملتقيات العلميّة، إضافة إلى تأجيل سفر الأعوان العموميّين في إطار مهامهم الوظيفيّة مع الحرص على إرساء منظومة للتواصل عن بُعد في الإدارات.
كما اعتُمد توقيت عمل استثنائي للموظفين العموميّين يقضي بتقسيم نظام العمل إلى حصّتين، تمتدّ كلّ منهما خمس ساعات، يعمل خلالها فريقي عمل بفارق ساعة ونص. وقد سمح هذا القرار بإمكانيّة العمل عن بُعد لبعض الموظّفين للحدّ من مخاطر انتشار العدوى.
ومع تسجيل أول حالة وفاة، وتسارع انتشار الفيروس في مختلف أرجاء العالم وتضاعف مخاطره، أُقرّ منع التجول في البلاد بين السادسة مساءً والسادسة صباحًا كمرحلة أولى، ثمّ إقرار الحجر الصّحي الشّامل كخطوة تالية. وقد كان هذا التّوجه محلّ توافق بين رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية، الذي كان إقراره يقتضي موافقته. وقد عبّر الكاتب عن مخاوفه من تبعات اتخاذ مثل هذا النّوع من الإجراءات وما قد ينجم عنه من "تمرّد على القانون في بعض الأحياء التي ترتفع فيها نسب الفقر وتضيق فيها مساحة المساكن مع اعتياد السّهر واللهو خارجها".[8]
إنّ فرض الحجر الصحي الشّامل استدعى بقاء الموظّفين في منازلهم وعدم مغادرتها إلّا بترخيص مسبق. وعدّ الكاتب هذا الأمر مفارقة، إذ إن أوّل ما ابتدأ به مهامه كوزير دولة لدى رئيس الحكومة مكلّف بالوظيفة العموميّة والحوكمة ومكافحة الفساد هو مراقبة حضور الموظّفين، في حين اقتضى الوضع الصّحي أن يتحوّل الأمر إلى الحرص على بقائهم في منازلهم وعدم تنقّلهم إلى العمل إلّا للضّرورة القصوى.
تواصل العمل بمقتضيات الحجر الصحي الشّامل بداية من 22 مارس/آذار إلى 3 مايو/ أيار 2020، لتشرع الحكومة لاحقًا في اعتماد الحجر الصحّي الموجّه. وقد انقسمت هذه المرحلة إلى فترتين: امتدّت الأولى من 4 مايو/ أيار 2020 إلى 24 من نفس الشّهر، إذ استمر العمل بنظام الحصّتين مع حضور لا يتجاوز 50% من الموظفين. أما الفترة الثانية، فقد امتدت من 26 مايو/ أيار إلى 7 يونيو/ حزيران، جرى خلالها رفع عدد العاملين إلى 75%، ليعود العمل بشكل طبيعي بداية من اليوم الثامن من نفس الشهر. وقد عدّ الكاتب أنّ تعامل الحكومة مع الأزمة الصّحيّة كان جادًا، وأسفر عنه أضرار محدودة مقارنة ببقيّة الدّول. ففي حدود تسليم المهام إلى الحكومة التالية يوم 3 سبتمبر/ أيلول 2020، بلغ عدد الإصابات 4512، مقابل 87 حالة وفاة متأثّرة بالمرض.
الاستفادة من الأزمة الصحيّة لتمرير إصلاحات إداريّة
كان من أبرز أهداف عبّو في خطّته الوزاريّة إصلاح الإدارة ومكافحة الفساد من أجل تحقيق الشعار الذي يردده دائمًا في مذكّراته: "دولة قوية وعادلة". وبالرّغم من عرقلة جائحة كوفيد-19 للعمل الإداري والتّحديات التي فرضتها على الحكومة والإدارة على حد سواء، اعتبر عبّو أن هذا الوضع غير الاعتيادي قد شكّل فرصة لتمرير إصلاحات إداريّة كانت قد تعطّلت بالرغم من برمجتها منذ سنة 2017. وقد ساعد في ذلك تفويض مجلس نواب الشّعب لرئيس الحكومة صلاحيّة إصدار المراسيم طبقًا للفصل 70 من دستور 2014، وهو ما وفّر تسهيلات قانونية لتسريع الإصلاحات المعطّلة.
بناءً على ما سبق، عدّ الكاتب وضع الإطار التّشريعي للمعرّف الوحيد، الذي ينظّم قواعد مسك السجل وحماية المعطيات الشخصيّة، من بين أهم الإصلاحات الإدارية. وتسهّل هذه الخطوة الإجراءات الإداريّة للمواطنين، بحيث يتم تقليص حجم الوثائق الشّخصيّة التي تطلبها الهياكل الإداريّة من المواطنين. ويسهم ذلك في تسهيل قضاء المواطنين لمصالحهم والتقليل من التعقيدات الإداريّة.
نجحت الحكومة خلال تلك الفترة في إصدار مرسوم لإعادة هيكلة المنظومة التي تسمح لمختلف الإدارات والمؤسسات الحكوميّة بالتّبادل الإلكتروني، وهو ما لم يكن ممكنًا في السابق وأدى إلى تعطيل عمل العديد من المؤسّسات خلال الأزمة الصحية الحرجة وفترة تطبيق الحجر الصحي. وقد بيّن عبّو أن الحكومة حرصت على إسناد هذه المهمّة إلى المركز الوطني للإعلامية، سعيا منها إلى إيلاء المؤسسات الحكومية أولوية الإشراف على هذا الجانب. وقد نصّ المرسوم على أن المعطيات والوثائق الإلكترونيّة التي تتبادلها الإدارات تتمتع بنفس الصبغة القانونيّة للوثائق الورقيّة، مع إعطاء الإمضاء الإلكتروني نفس الحجة القانونيّة للإمضاء الخطي، وهو ما يسهم في تسريع أداء الإدارات لمهامها ويبسط الخدمات الإداريّة.
سقوط الحكومة
عانت الحكومة من تحديات وصّعوبات عديدة أثرت سلبًا على سمعتها وأضعفت قدرتها على الأداء بفاعليّة. وتُعدّ "قضيّة الكمّامات" وقضيّة تضارب المصالح، التي وُجّهت فيها اتهامات لرئيس الحكومة، من أبرز الملفات التي عجّلت باستقالة الحكومة بعد ستة أشهر فقط من بدء عملها. وفي القسم الأخير من مذكّراته، خصّص محمد عبّو مساحة لا بأس بها لتوضيح وجهة نظره وموقفه من هذه الأحداث والاتهامات التي وُجّهت للحكومة، خاصّة وأنّها تتعارض مع ما أُعلن عنه منذ البداية من محاربة الفساد وإنهاء المحسوبيّة واستغلال النّفوذ. تتمثّل "قضيّة الكّمامات" في وجود شبهات حول إعداد كُتيب شروط يحدّد مواصفات صناعة الكمامات المطلوبة من قبل رئاسة الحكومة بطريقة موجّهة تضمن مصالح البعض وهو ما أسهم في احتكارهم لنوع محدد من القماش المطلوب في إنتاجها، وذلك عبر شراء كل الكميات المتوفّرة في السوق قبل الإعلان الرسمي عن كُرّاس الشّروط للعموم.
أمّا القضيّة الثانية، وهي الأخطر والأكثر إضرارًا بعمل الحكومة، هي قضية تضارب المصالح التي أثارها أحد أعضاء مجلس نوّاب الشّعب عبر وسائل الإعلام في 17 يونيو/حزيران 2020، وتتعلّق بمساهمة رئيس الحكومة في شركة تعمل في المجال البيئي ولها شراكة مع الدولة. وقد اعتبر النائب أنّ هذا الأمر يمثّل تضارب مصالح، في حين أوضح رئيس الحكومة أنّ نسبته في الشركة لا تتجاوز 20%، وهي نسبة مسموح بها قانونيًا ولا تشكّل تضارب مصالح.
وبيّن عبّو حجم الضرر الذي ألحقته هذه القضيّة بالحكومة، وكيف أسهمت في إضعافها، الأمر الذي دفع رئيسها إلى تقديم استقالة الحكومة بعد الضّغوطات التي واجهتها. وأشار إلى أنّ منافسيهم، بل وحتّى شركاءهم في الحكم، استغلّوا هذا الملف من أجل العمل على إسقاط الحكومة دون انتظار نتائج التحقيقات التي انطلقت للكشف عن مدى صحّة الاتهامات الموجّهة. وسرعان ما جُمعت الإمضاءات لتقديم عريضة لسحب الثقة من الحكومة، مما دفع رئيسها إلى تقديم استقالته إلى رئيس الجمهورية بالاتفاق معه، لتعود المبادرة إليه مجدّدًا لتعيين رئيس حكومة جديد.
ختامًا، تعدّ مذكرات محمد عبّو وثيقة بالغة الأهمية لفهم التحولات السياسية التي شهدتها تونس في أعقاب الثورة. فهي تقدّم رؤية داخلية لصراعات القوى والتحديات والفرص التي ظهرت في مسار الحكم. يشير هذا النوع من الكتابات إلى أهمية المذكّرات كوثائق تاريخية معاصرة، إذ يساهم كُتّابها، عادةً باعتبارهم مشاركين في الأحداث، في تقديم معطيات تاريخية تتيح للمهتمين بالشأن السياسي، وكذلك للباحثين في تاريخ تونس المعاصر والراهن، الاطلاع على مجريات تلك المرحلة وفهم سياقاتها بعمق.