في هذه المراجعة-الحوار، تستعيد دينا عزت مع ياسين الحاج صالح تجربته التي وثّقها في كتابه "بالخلاص يا شباب! 16 عامًا في السّجون السوريّة"، وتفتح معه نقاشًا عن العدالة الانتقالية، والمحاسبة، والمصالحة الممكنة بعد عقود من القمع والاستبداد في سوريا. بين ما كُتب وما قيل، يقدّم الحاج صالح تأملًا عميقًا في أثر السجن على الوعي، وفي الحاجة الملحّة لعدالة لا تنزلق إلى الانتقام، بل تمهّد لبناء وطن لا يتحكم فيه الماضي من جديد.
صاحب "بالخلاص يا شباب" يتحدث عن مدونته، عن سنوات السجن في سوريا الأسد، وعن الحاجة إلى المحاسبة والمصالحة "حتى لا يمسك الماضي بتلابيبنا"
دينا عزت [1]
"فكرة العدالة هي فكرة شديدة الأهمية، لكن الإبقاء على المجتمع هو فكرة أكثر أهمية". بهذه الكلمات لخّص ياسين الحاج صالح، السياسي والمفكر السوري، تقييمه للكيفية التي ينبغي أن يتعامل بها نظام أحمد الشرع مع المتورطين في ارتكاب انتهاكات بحق المدنيين السوريين على مدى ستة عقود متتالية من الحكم البعثي، نصفها تحت حكم حافظ الأسد الأب، والنصف الآخر في عهد ابنه بشار الأسد، الذي انتهى حكمه بصورة مفاجئة، أو على الأقل هكذا بدا الأمر، في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر من العام الماضي.
هو شهر يحمل الكثير من الذكريات للحاج صالح، المنتمي إلى التيار اليساري السوري؛ ففي فجر السابع من كانون الأول/ ديسمبر 1980، اعتُقل وهو لا يزال طالبًا في السنة الثالثة من كلية الطب في جامعة حلب. وفي الحادي والعشرين من الشهر نفسه عام 1996، انتهت سنوات سجنه التي بدأت وانتهت في عهد الأسد الأب.
وقبل أعوام من اندلاع الثورة السورية المطالِبة بالحرية والديمقراطية، وبالتحديد في عام 2003، بدأ الحاج صالح، المقيم خارج وطنه، في تدوين بعض الذكريات وكثير من الانطباعات عن ستة عشر عامًا قضاها في السجن، وذلك في كتابه المعنون بـ "بالخلاص يا شباب! 16 عاماً في السجون السورية"[2]، الصادر في 216 صفحة عن دار الساقي في عام 2012، في وقت كان فيه العالم يتوقع نهاية حكم بشار الأسد، لتنضم سوريا إلى الدول العربية التي أسقطت أنظمتها في وهج الربيع العربي. أما طبعته الثانية، فصدرت عام 2017، مع تراجع الآمال في سقوط الأسد، وانتفاء استخدام عبارة "بشار لن يكون جزءًا من مستقبل سوريا".
لا يضع الحاج صالح تجربته في سجون الأسد الأب، بكل ما حفلت به من تنقّلات بين سجون شديدة القسوة وأخرى مفرطة القسوة، في خانة "مذكرات شخصية" أو "أدب السجون". كما أنه لم يقدّم نفسه في صورة "السجين السياسي البطل"، إذ يؤكد أن هدفه من الكتاب لم يكن صياغة سردية عن وضعية فردية، بل تقييم ما يمكن أن تفعله تجربة السجن بالناشط السياسي – مع الأخذ في الاعتبار أنه لا يشمل في حديثه الإسلاميين، الذين كانت تجربتهم، كما يشير، أشد فظاعة بكثير من تجربة اليساريين.
لا يغفل الحاج صالح في كتابه معاناة المسجون السياسي، لكنه لا يستغرق طويلًا في استرجاع لقطات الألم والقسوة، سواء تلك التي يمرّ بها السجين في حضرة رجال الأمن، خاصة في سجون سيئة السمعة مثل صيدنايا، الذين لا يترددون أبدًا في إيقاع صنوف التعذيب على من يقع بين أيديهم، بما في ذلك الضرب المبرح، أو إجبار السجين على التقاط الأحذية من الأرض بفمه ونقلها من مكان إلى آخر دون استخدام يديه، أو تلك التي يعيشها حين يصله خبر اعتقال أحد أفراد أسرته بسبب صلته به أو للضغط عليه.
يكتب الحاج صالح: "اليوم الأول في السجن لا يختلف عن شعور من وقع في بئر عميق في منطقة مقطوعة من العالم". ويضيف أن الشعار الذي كان يدركه كل سجين سياسي في سجون الأسد الأب، والتي ازدادت فيها مستويات التعذيب مع مرور السنوات، كان دومًا: "أيها الداخلون إلى هذا المكان، تخلّوا عن كل أمل".
وكما يوضح في كتابه، الذي يتجنّب فيه عمدًا سحب القارئ إلى ثنايا الصدمة النفسية الناجمة عن الأذى الجسدي والنفسي، فإن الأمل الوحيد الذي يتمسك به السجين هو البقاء على قيد الحياة، ليس فقط من حيث الحفاظ على السلامة الجسدية، بل أيضًا على السلامة النفسية والعقلية. وكان ذلك ممكنًا، في حالته، لأنه لم يكن من الإسلاميين، ما أتاح له الحصول على بعض الكتب، والعمل على تحسين جودة الطعام المقدم له، إلى جانب الزيارات العائلية التي كانت، على الأقل في سنوات السجن الأولى، أكثر انتظامًا.
يقول الحاج صالح في كتابه إن السجن كان "بمثابة ولادة ثانية"، اكتشف فيها نفسه وتعلّم الكثير من خلال ما قرأه، ليخرج من السجن إنسانًا أكثر معرفة وتبصّرًا.
في المجمل، يطرح كتاب بالخلاص يا شباب! 16 عامًا في السجون السورية رؤية شاملة لتطور أوضاع السجناء السياسيين في زمن الأسدين، الأب والابن، لافتًا إلى أن الاعتقال السياسي في النصف الثاني من ستينيات القرن العشرين أو السنوات الأولى من السبعينيات لم يكن كما أصبح عليه لاحقًا، حين اتسع ليشمل "جميع المعارضين وعددًا غير قليل من عموم الناس".
ويقول إن "الاعتقال لم يكن التجربة الأمنية الوحيدة التي يعرفها السوريون خلال تاريخ سوريا الأسد(ين)، والذي تحوّل فيه الاعتقال السياسي من حالة نادرة إلى حالة شائعة". ويوضح أن التجارب الأمنية كانت متعددة، شملت التهديد والابتزاز والاحتجاز المطوّل في المقرات الأمنية، والإجبار على العمل في نقل المعلومات من الدوائر الاجتماعية إلى أجهزة الأمن. ويشير إلى أن "عدد من خاضوا هذه التجارب يفوق بكثير عدد المعتقلين، أيًّا كان حجمهم".
منذ اندلاع الثورة السورية في ربيع عام 2011، ظهر، طبقا لـ الحاج صالح، جيل جديد من المعتقلين يُقدّر عددهم بنحو 200 ألف أو أكثر. ويشير في حديثه مع "الصالون" إلى أن هؤلاء ربما تعرّضوا خلال احتجازهم لانتهاكات أبشع بكثير، مع الإقرار بوجود فارق – ولو محدود – في المعاملة بين الإسلاميين، الذين نالهم من الفظائع ما نالهم دون أدنى تردّد، وغيرهم، مع الأخذ في الاعتبار أن التيار اليساري لم يعد له أي تأثير أو وجود فعلي في سوريا.
ويضيف الحاج صالح، في حديثه للصالون، أنه قرر منذ أن كان في السجن، وبعد خروجه، ألا يجعل حياته أسيرة لتجربة الاعتقال، لكنه يقرّ بأن تجاوز هذه التجربة لم يكن أمرًا سهلًا أبدًا. ويؤكد أن التوقع بأن يتمكن النظام السوري الجديد، بقيادة أحمد الشرع، من تحقيق محاسبة شاملة لا تُسقِط أحدًا من المتورطين – سواء من السوريين أو من الأجانب الذين استقدمهم بشار الأسد للحفاظ على حكمه المتداعي في مواجهة مظاهرات شعبية لا تنتهي – هو أمر غير واقعي، نظرًا لتورطهم المباشر في الانتهاكات المروّعة التي شهدتها البلاد.
يرى ياسين الحاج صالح أن الاعتقاد بامتلاك النظام الحاكم الجديد تأثيرًا حاسمًا في ما يُقبل أو يُرفض على مستوى الدولة، لا يعكس الواقع بدقّة؛ فهذا النظام لا يزال في بداياته، ويتعامل مع التحديات الأمنية بحذر وتحفّظ. ومن غير الواقعي، في تقديره، توقّع أن يُبادر إلى محاسبة شاملة لكل من تورّط في التعذيب داخل السجون أو التنكيل بالمواطنين، مهما كانت طبيعة تلك الانتهاكات.
وفي حال أقدم النظام الجديد على فتح ملف المحاسبة بهذا الشكل الواسع، فقد يؤدي ذلك إلى إضعاف البيروقراطية، ما يُشكّل تهديدًا لاستقرار الدولة في هذه المرحلة الانتقالية. لذا، من الأجدى التوجّه نحو شكل من العدالة يَحول دون تغذية نزعات الانتقام والثأر، وخصوصًا تجاه من يُشتبه في تورّطهم بجرائم عديدة مُرتكبة بحق الشعب السوري.
المبدأ، وفقًا لما يراه الحاج صالح، يكمن في ضرورة معاقبة الجرائم الكبرى لتفادي الانجراف في دوامة الثأر القائمة على أسس طائفية أو سياسية. ويشير إلى أن كبح رغبة الانتقام يسهم في منع تكرار فصول العنف التي شهدتها مناطق من الساحل السوري، حيث استُهدفت طائفة الدروز والطائفة العلوية التي تنتمي إليها عائلة الأسد. وفي هذا السياق، يؤكّد ضرورة تحرّك نظام الشرع في سوريا لمصارحة الشعب بما جرى في الساحل، واتخاذ خطوات جدّية لضمان عدم تكرار مثل هذه الأحداث الانتقامية.
لا يُخفي ياسين الحاج صالح أن ما جرى في الساحل أصابه بشيء من الحزن، خفّت حدّته قليلًا أمام شعور التفاؤل الذي رافقه منذ لحظة سقوط الأسد، تلك اللحظة التي كانت مربكة ومبهجة في آنٍ واحد. لكنه يصرّ في الوقت نفسه على أن عدالة انتقالية معتدلة، إلى جانب جهد أوسع لإعادة دمج المجتمع، تمثّل مسارًا ضروريًا للمضي قدمًا "حتى لا يمسك الماضي بتلابيبنا".