تحكي عفاف محفوظ، المحللة النفسية والنسوية المصرية، بصراحة متناهية عن حياتها وتطورات شخصيتها وعلاقتها بجسدها وعملها في الشأن العام في كتاب صدر مطلع العام الحالي قبل أيام من وفاتها بعنوان "من الخوف إلى الحرية، رحلة امرأة مصرية من الصعيد إلى ما وراء المحيط".
سيد محمود [1]
لا يكتفي كتاب من "الخوف إلى الحرية، رحلة امرأة مصرية من الصعيد إلى ما وراء المحيط" الصادر مطلع العام الحالي عن دار كتب خان في القاهرة، بسرد السيرة الذاتية للأكاديمية المصرية عفاف محفوظ. لكنه يعيد اكتشاف جهودها ليس فقط في مجال التحليل النفسي، وإنما أيضا كناشطة في الحركة النسوية المصرية التي برزت من داخل المجتمع المدني منذ ثمانينيات القرن الماضي. توفت عفاف محفوظ بعد صدور كتابها بأيام، كانت آخر كلماتها فى كتابها: "لم أضمر شرًا لأحد في هذه الحياة ولا أخشى عقابًا في جحيم ما بسبب أفعالي، كما لا أتطلع لنعيم دائم في جنة موعودة بفضل ما قمت به. أجلس الآن على مقعدي في منزلي في فلوريدا وأنا أتذكر قصة حياتي، وأتحدث عنها، بينما أرنو إلى الساحة الكبيرة الخضراء أمام البناية، عبر النافذة الزجاجية الكبيرة، وأبتسم لأني أتخيل أحيانًا أنني أرى نخيل المنيا على شاطئ بالم بيتش في فلوريدا."
بذل خالد منصور، الصحفي والناشط الحقوقي، جهدا كبيرا في التحرير، ليس فقط في الصياغة والتعبير بالدقة اللازمة، وإنما في إخفاء حضوره داخل النص ليترك للقارئ حرية الاستماع لصوت محفوظ على نحو يجعل من الكتاب مؤشر بياني يمكن من خلاله إدراك التحولات المجتمعية لمصر عبر قرن كامل.
شجاعة نادرة
منذ الصفحات الأولى، يدرك القارئ أنه أمام شخصية استثنائية تتمتع بشجاعة نادرة اتخذت قرار تسجيل سيرتها بعد معرفتها باقتراب موتها بسبب التليف الرئوي. انحازت محفوظ في ذروة المواجهة مع الموت لفكرة تسجيل حياتها التي "تبعثرت بين الولع بالحرية والاستقلال"، ووضعت القارئ أمام فكرة تبدو مركزية في السيرة، وهي دفاعها الدائم عن استقلالها، وابتعادها عن الانغماس الكامل في العمل السياسي بسبب خوفها الدفين، ومثاليتها المفرطة، وتوقها الدائم الى الحرية نتيجة تأثرها المبكر برواية "الأيادي القذرة" لجان بول سارتر. طوال حياتها، تحاشت محفوظ الوقوف تحت راية محددة، ولم تقبل بأي تصنيف، وظلت تنظر لنفسها خارج مظلة أي جماعة. ساعدها على ذلك أنها تمكنت من الاستقلال النسبي الواعي عن مؤسسات العائلة والزواج والحزب والزعيم، لكن عملها في الربع الأخير من حياتها في مجال التحليل النفسي ساعدها كذلك على الإيمان بأنه يستحيل على أي فرد أن يعيش حراً حرية تامة.
حين بلغت محطتها الأخيرة، آمنت المحللة النفسية بأن الهدف الأهم لكل إنسان هو امتلاك وممارسة القدرة على الاختيار، لذلك صورت رحلتها في الانتقال من الخوف من مسؤولية اختبار هذه القدرة إلى قبولها، بل والإصرار على حملها، وبالتالي فقد رأت حياتها قرينة رحلة الانتقال من الخوف إلى الحرية وهو العنوان الذي تم اختياره للكتاب. يمجد الكتاب لحظات الضعف الإنساني، وينطوي على كثير من لحظات التحدي والمكاشفة التي رافقت صاحبة السيرة طوال ما يزيد عن 80 عاما كشفت فيها حساسيتها المفرطة، وإيمانها البالغ بالحرية كقيمة مطلقة لا مجال للمساومة عليها. تمضي السيرة وفق خط زمني متصاعد يمتد من الطفولة إلى لحظات الموت، ويسمح بقطف الكثير من الومضات التي تلمع تحت ركام ذاكرة معبأة بالتفاصيل.
العودة إلى الجذور
ولدت محفوظ في الثالث من يوليو من العام 1938 وعاشت طفولتها في مدينة المنيا شمال الصعيد، وظلت هناك إلى أن غادرت إلى الاسكندرية لتلتحق بالجامعة مع عائلتها. قبل ذلك بسنوات، عاشت في بيت لا يختلف عن غيره من بيوت كبار ملاك الأراضي الزراعية في الصعيد، الذين جاء معظمهم من أصول متعددة، فهي ذات أصول تركية تعود للأم وأصول مغربية ترجع للأب. تتذكر محفوظ بنبرة تقدير جدها من ناحية والدها، المحب للحياة والذي أنفق الكثير من أمواله على سهراته في القاهرة. كما تتذكر بنفس التقدير جدتها لأمها ذات الأصول التركية والتي فتحت أمامها آفاقا عاطفية وفكرية واسعة بفضل حرصها على تعليم بناتها.
ترسم السيرة صورة واضحة لاستقامة هذه الجدة، فهي لم تتردد في الإفصاح لموظف جاء لتوثيق الميراث الشرعي للعائلة عن وجود طفلين آخرين لزوجها الراحل يستحقان الميراث حتى وإن جاءا نتيجة علاقته بسيدة أخرى من بين الفلاحات اللواتي كن يخدمن في البيت. وبنبرة نسوية يصعب تفاديها، تلح محفوظ على وقائع ذات دلالة بعضها حول مقدار التعاسة التي عاشتها النساء، بسبب خيانات الرجال أو بسبب فقدان الحق في الاستقلال المالي.
تركز محفوظ كثيرا على الأدوار التي لعبتها النساء في بيت العائلة خاصة من حيث الحرص على "تقديس الاستقلال المالي" والتمسك بتعليم البنات. هكذا وقفت الأم والجدة في وجه الأب الذي كان يعارض تعليم بناته، وتمكنا من مواصلة الدراسة وهو أمر لم يكن شائعا في المنيا خلال أربعينيات القرن الماضي. ترد في الصفحات الخاصة بسنوات الطفولة الكثير من القصص والحكايات التي تعكس تأثر العائلة بمحيطها الريفي المحافظ دينيا، والإيمان ببعض القصص الخرافية والحكايات الشعبية التي تستعمل في جلسات السمر كأدوات للتربية وفي بعض الأحيان لتبرير صور الهيمنة الذكورية. وتسلط صفحات أخرى الضوء على التغييرات الاقتصادية والاجتماعية التي جرت بين ثلاثينيات القرن الماضي وأربعينياته، لكنها لم تغير كثيرا من الوضع الطبقي للعائلة التي صمدت في وجه تلك التغييرات.
اكتشاف الهوية الجندرية
تستدعي محفوظ في سيرتها المرات الأولى التي واجهت فيها اختلافها عن أقرانها الذكور، فقد كانت الأطول قامة بين أطفال العائلة مما عرضها للتنمر وتفضيل الوحدة واكتشاف القراءة كمخرج من تلك الوحدة. كما تسجل الكثير من أشكال التضييق التي عانت منها داخل المدرسة، وتصور اللحظة التي فاجئها فيها الحيض لأول مرة، وكيف عاشت توالي التغييرات الجسدية والنفسية بعد البلوغ من دون حديث مع شخص واعي أو متعاطف.
تزامن اكتشافها لاختلاف هويتها الجندرية مع اكتشافها لضرورة تمييز هويتها الثقافية في مجتمع تعددي. فقد بدأت جدتها تربطها بهويتها الإسلامية حين طالبت الحفيدة بدخول الدير والانتماء إلى الراهبات. كما لاحظت أن الأب متعلق بصورة أعمق بهويته العربية والمصرية وليس بالانتماء الديني. تدريجيا انجذبت محفوظ إلى عناصر الهوية العربية وليس الإسلامية. لكن أهم ما تؤكد عليه أن "اقترابها من هويتها العربية لم يجعلها منغلقة على تلك الهوية".
دخلت محفوظ في معركة مع والدها للمساح لها بدخول الجامعة. وانتهت المعركة بالتحاقها بكلية الحقوق إلى جوار 15 طالبة ومئات من الطلاب الشباب في جامعة الإسكندرية وفي زمن كان حافلا بتحولات سياسة كثيرة. مرت سنواتها في الجامعة تحت ضغط رقابي من العائلة، ولعبت الأم دور "الرقيبة المتسلطة" على علاقاتها مع زملائها وزميلاتها. لذلك عانت محفوظ بتعبيرها "كبتا شديدا" صارت معه عديمة الرغبة الجنسية تقريبا. ورغم أن الحياة الجامعية كانت منفتحة نسبيا، لكنها وضعت قيودا ذاتية صارمة على سلوكها وجسدها ثم اتخذت قرارها بارتداء الحجاب ما جعل الطلاب يسخرون منها ويصفونها بـ "المحجبة البورجوازية".
تغييرات مصيرية
تزوجت محفوظ من زوجها الأول في فبراير 1958، زواجا انتهازيا -على حد تعبيرها-، حيث كان زوجها من وجهة نظر جدتها "رجل من عائلة طيبة يقبله الأب، ويمكن أن تسافر معه إلى فرنسا لتكمل دراستها العليا كما كانت تحلم." لكن حين تعود لتقييم تلك اللحظة، لا ترى محفوظ سوى "قيود مشددة وتصرفات عائلة محافظة"، وهي التي كانت تحلم بالانعتاق والمعرفة والحرية بأي طريقة.
تقر في سيرتها الذاتية أنها تمكنت لاحقا من الانعتاق من الخوف الذي هيمن عليها، ودور زوجها في مغادرتها لمصر. قبل ذلك، عانت من ألم بدني ونفسي ناجم عن علاقتها الجنسية مع زوجها، وتسلط وسيطرة حماتها. مع وصولها لفرنسا، شهدت حياتها تغييرات عديدة أبرزها الالتقاء بالكثير من الشخصيات المصرية المؤثرة مثل رشدي راشد عالم الرياضيات، ومحمد دويدار أستاذ الاقتصاد السياسي الذي فتح أمامها الطريق لفهم الماركسية، ومصطفى صفوان استاذ علم النفس الذي قلب حياتها رأسا على عقب وقادها بعد سنوات لاكتشاف عالم التحليل النفسي. كما تخلت عن الحجاب وتحررت بشكل عميق مع اختفاء أي سلطة أمومية ساحقة وانفتح العالم أمامها. في نفس الوقت تحولت علاقتها مع زوجها لصداقة وباتت أقل أهمية مع مرور الوقت. غادرت محفوظ باريس مؤقتا والتحقت بزوجها في بيروت في ذروة تألقها كعاصمة ثقافية للعالم العربي. ثم عادت لباريس مجددا في عام 1965 للحصول على درجة الدكتوراه بدعم مالي من والدتها.
تمضي محفوظ في سرد تفاصيل دراستها وحياتها في فرنسا وأيضا طبيعة علاقتها مع زوجها، لتعترف في أحد أهم فقرات الكتاب بخوفها من "التغيير والوصم". إذ كان الطلاق بالنسبة لها فشلا، كما تعترف أن زوجها "استبطن بدوره قيم المجتمع والأسرة الذكورية ولم يكن ليقبل أن تطلقه، لأن السلوك والنبذ – كما تربي -سلوك من حق الرجل حصريا." وبنبرة ألم واضحة تحكي عن انغماس زوجها بعلاقات مع نساء أخريات إلى أن حصلت على الطلاق في منتصف السبعينيات.
بعد طلاقها، نالت فرصة كبيرة بتعيينها مستشارة ثقافية لمصر في الولايات المتحدة عام 1975، بعد عودة العلاقات الدبلوماسية بالكامل بين البلدين. وعلى الرغم من سعيها للعمل بنشاط إلا أنها واجهت مشكلات مع بعض الدبلوماسيين لكونها "امرأة مطلقة " لكنها محافظة في حياتها الخاصة وترفض إقامة علاقات حميمة مع أحد. تحكي محفوظ كيف التقت مع رالف بولتخن، باحث هولندي من أصل سريلانكي، في مؤتمر ضخم لحوار الأديان وانجذبت له عاطفيا وجسديا بسرعة. مع ذلك، لم تستمر علاقتهما طويلا لأنها كانت لا تزال بحاجة إلى التحرر مما تبقى داخلها من خوف من أسرتها المحافظة. لاحقا، استقالت من عملها ذو الطابع الدبلوماسي لخلافها الواضح مع النهج الذي تبناه الرئيس السادات، وفضلت العودة إلى الجامعة في مصر. لمست محفوظ، عند عودتها إلى مصر، الطابع الذكوري المهيمن ووجدت مجتمعا غارقا في النفاق والازدواجية. لهذا لم تفضل أبدا الدخول في علاقات عاطفية جديدة. إلا أنها التقت كارل شيرن، الذي كان يدرس في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وتزوجته بعد شهرين فقط.
أشكال مختلفة من النضال
تسجل محفوظ في الثلث الأخيرة من كتابها، تجاربها في النضال من أجل حقوق المرأة وعملها مع عدد من الناشطات لدفع المجال العام لتقبل هذا النوع من القضايا النسوية. وتشرح صعوبات العمل في هذا المجال وتسجل الكثير من مظاهر الفساد ضمنه. كما تشير إلى أن النفاق والتزلف للسلطة ممارسات مغرية لكثير من المؤمنات بحقوق المرأة ومع الوقت يصبحن أكثر إيمانا بالممارسة السلطوية وما تجلبه من مكاسب.
بالمثل تشير محفوظ إلى عملها الفعال مع لجنة الدفاع عن الثقافة الوطنية في مقاومة سياسة التطبيع مع إسرائيل بعد اتفاقية كامب ديفيد، وتعترف بأنها صارت أكثر إحباطا وأقل نشاطا بعد أن لمست صعوبات العمل في مصر. وتقرر العودة مرة أخرى إلى أمريكا وممارسة التحليل النفسي بسعادة ونجاح بسبب استقرار علاقتها مع زوجها، واصفة علاقتها مع السلطة في مصر بأنها صارت دوما على خيط رفيع بين الجبن والشجاعة.
يكشف الكتاب تعقد شبكة العلاقات الشخصية وتأثيرها على العمل العام في مصر، لكنه أيضا يبرز شخصية عفاف محفوظ كصوت نسوي مستقل، بعيد إلى حد كبير عن الاستقطاب الإيديولوجي التقليدي الذي هيمن على طبيعة المجال العام في مصر طوال ما يزيد عن نصف قرن.