يقدم وليد الخشاب في كتابه "مهندس البهجة: فؤاد المهندس ولا وعي السينما" قراءة جديدة لمسيرة الفنان الراحل فؤاد المهندس، مستكشفًا العلاقة بين الفن والسياسة في مصر. يربط الخشاب بين أعمال المهندس وبين التغيرات الاجتماعية والسياسية التي شهدتها مصر، ويحلل كيف استخدمت السينما كأداة للتعبير عن التوجهات السياسية السائدة في تلك الفترة.
داليا شمس[1]
في كتابه الأحدث "مهندس البهجة"، اختار وليد الخشاب، الأكاديمي والشاعر المصري، شخصية الفنان الراحل فؤاد المهندس (1924-2006) لتقديم قراءة مختلفة لتاريخ الكوميديا في السينما المصرية. يغوص الخشاب في عالم الكوميديا الذي تربع على عرشه المهندس، من خلال سلسلة من التوازيات والثنائيات، ليصول ويجول في فضاء الفكاهة بوصفها ممارسة ثقافية كونية شاملة ووعاء للهوية القومية تستمتع به كافة الطبقات، مؤكدا في مناطق متفرقة من الكتاب على أن الكوميديا لم تحظ بالاهتمام النقدي الكافي رغم أنها مسألة جادة، وأن تاريخ الكوميديا في السينما المصرية لم يُكتب بعد.
يندفع الخشاب إلى كتابة جزء من هذا التاريخ عبر التصدي لشخصية فؤاد المهندس ورحلة صعوده، التي واكبت المرحلة الناصرية، خاصة وأن الممثل الراحل بدأ مع برنامج "ساعة لقلبك" الذي حقق نجاحا إذاعيا مدويا وتصادف ميلاده مع مجيء ثورة الضباط الأحرار عام 1952. لاحقا، لمع نجم المهندس سريعاً في الإذاعة والسينما والمسرح والتلفزيون، ثم اتخذ لنفسه منحى مختلفاً تحت حكم السادات ثم مبارك.
يقدم المؤلف دراسة نقدية جادة وشيقة، على نحو غير مسبوق في المكتبة العربية، ويركز على الكوميديا من حيث ارتباطها بمرحلة التحرر الوطني والتعريب، وبالتالي فهو يوازن بشكل دائم بين التاريخي والفني، ويوازي بين ما يحدث في مجال الكوميديا وما يجري في إطار أوسع على المستوى السياسي والاجتماعي، منطلقا من افتراض أساسي وهو" توزان البنى بين دائرة التاريخ ودائرة الفن، لا أن الثانية انعكاس للأولى"، ووجود "علاقة توازٍ بين رمزية الدور الذي يلعبه المهندس في مجال التاريخ الذي يلعبه ناصر في مجال الإنتاج الفني".
لعبة الثنائيات
يتطرق الخشاب إلى فكرة الثنائيات و"تجليات تيمة الازدواج والازدواجية"، فالمهندس كان نجماً منفرداً له بصمته لكن جزءاً هاماً من تاريخه اعتمد على ثنائية جمعته في العديد من الأعمال الخالدة بالفنانة شويكار، ومن قبلها بخيرية أحمد لسنوات من خلال برنامج "ساعة لقلبك" الإذاعي.
يذكر المؤلف أن الثنائي المهندس وشويكار امتداد لتقليد عُرف في الأربعينيات والخمسينيات السينمائية المصرية، يربط بين نجمين على المستوى الفني والعاطفي، وقد تم توظيفه سياسياً في نهاية الخمسينيات وطوال الستينيات. رأينا على سبيل المثال شادية وصلاح ذو الفقار، فاتن حمامة وعمر الشريف، ماجدة وإيهاب نافع، وساهمت بالطبع هذه الثنائيات في تعزيز فكرة حداثة الدولة بوصفها وعاء لتحرر المرأة والتقدم في مسار المساواة بين الجنسين، لكن بالنسبة للباحث كان المهندس وشويكار من "أكثر الثنائيات انغماسا في ترديد خطابات الدولة الناصرية وتمرير دعاياتها، وإن كان هذا الترديد يتم بشكل غير مباشر".
يقول الخشاب في كتابه: "لو اعتبرنا أن ازدواجية مفتاح/إكس (في فيلم أخطر رجل في العالم) تعادل إزدواجية سياسات ناصر التي تناصر البسطاء/ حضور عامر المزاحم لرأس السلطة، يمكننا أن نضيف للمقاربة نفسها أن تحقق النجاح الفني على يد ثنائي المهندس/شويكار يعادل تحقق إدارة المجتمع على يد الثنائي ناصر/عامر. لكن هذا التوازي يعني وجود بنية الازدواج وبنية الثنائي في الظرف التاريخي وفي الإنتاج الفني، ولا يعني أن المهندس مثلا يعادل ناصر، بينما شويكار تعادل عامر".
يستطرد الباحث أكثر وأكثر في الشرح وعقد المقارنات، يروح ويجيء بين السياسة والفن، بين الازدواجية الملازمة لفكرة القرين والشبيه في أفلام المهندس الكوميدية البوليسية، خاصة تلك التي تلت هزيمة 1967، وبين ازدواجية الحقبة الناصرية التي تأرجحت بين خطاب ثوري تحرري وممارسات قمعية ضد المعارضين، بين ادعاءات أخلاقية عن المساواة بين المواطنين ومحاربة الفساد من ناحية، وممارسات تخلق طبقة جديدة تتمتع بامتيازات خاصة وتدعم الفساد من ناحية أخرى، أو بين خطاب القوة السياسية-العسكرية والقصور الذي أدى إلى الهزيمة.
بناء أكاديمي
يلتزم الخشاب، الذي يعمل كأستاذ ومنسق لبرنامج الدراسات العربية بجامعة يورك في كندا منذ عام 2007، بمعايير الكتابة والبنية الأكاديمية. يطرح الفكرة ثم يفصلها ويطورها في فصول تالية، ثم يلخصها لاحقاً بإيجاز غير مخل يؤدي إلى قليل من التكرار. لكنه يأتي من باب الحرص على بيان المنهج المتبع في الدراسة، ألا وهو توازي البني والنماذج المعرفية والتخيلية في الإنتاج الثقافي والخطاب السياسي والظرف التاريخي، دون أن يكون أحدها قد أثر في الآخر أو تسبب في نشوء الآخر.
"فكرة قتل الأب في كوميديات ما بعد 1967، توازي التخفيف من الخطاب الأبوي في وسائل الإعلام في الفترة نفسها، وتوازي كذلك بداية التمرد على سلطة الأب في نواحي الحياة، أي بداية قتل الأب بصورة مجازية. لكن هذا لا يعني بالضرورة أن هناك تأثيراً للسياسة يترجم آليا إلى تأثير في الفن، ولا أن الفن ينتج بناءً على توجيهات من مسؤولين أو توجهات يستشفها الفن من خطابات الدولة ولا أن الإنتاج الفني والثقافي هو انعكاس لوضع اجتماعي/اقتصادي/سياسي. المقصود هو أن المجتمع في لحظة تاريخية ما، ينتج مواقف ومنتجات وخطابات ومعاني تتشابه في بنيتها وروحها ومغزاها ورمزيتها، دون أن تبدو كل هذه المجالات واضحة على السطح".
يؤكد إذاً على أن التأثير ليس آليا ولم يأت وفق أوامر فوقية في معظم الأحيان، حتى وإن تبنت الدولة منهج التسلية والفكاهة لإلهاء الناس بعد النكسة، ويستند في كلامه إلى مفهوم "اللاوعي البصري" الذي صاغه الفيلسوف الألماني والتر بنيامين والذي توسع نقاد الثقافة في تطبيقه على "اللاوعي السينمائي"، ثم يعطي مثالا آخر على سبيل التوضيح، يندرج تحت بند "اللاوعي الكوميدي": عبط وسذاجة الشخصيات أحيانا في أفلام فؤاد المهندس وشويكار ممكن اعتباره "نذيرا بعبط مماثل في الصراع بين السادات والبيروقراطية الناصرية في قمة السلطة، سنة 1971، وقت ما عُرِف بثورة التصحيح. تلك الحركة التي كانت تحقيقا لانتصارات السادات على خصومه في الحكم، الذي أطلق عليهم وقتها اسم مراكز القوى".
يحلل الخشاب الدور الذي لعبه المهندس دون أن يلصق به تهمة كونه بوقا للنظام أو أداة في يد السلطة، بل على العكس هو ينفيها تماما عن اقتناع ومحبة، فهو من نجومه المفضلين منذ الطفولة والمراهقة، وقد استغرقت رحلة البحث في عالمه حوالي عشر سنوات قبل الوصول إلى نتائج هذه الدراسة الدقيقة التي ترسم ملامح المزاج العام لعصر مضى تفصل بيننا وبينه سنوات تسمح بالنظر للأمور بشكل شامل ويحتمل عدة أوجه. نتابع مسيرة المهندس من مطلع الخمسينيات وحتى نهاية القرن العشرين: بدايته الفنية ثم أدوار البطل الثاني حتى صار بطلا أوحدا في السينما من مطلع الستينيات إلى منتصف السبعينيات، نجوميته في المسرح واقتباسه للعديد من الأعمال الناجحة، تحوله في فترة الثمانينيات من كوميديا التشويق التي اشتهر بها إلى أدوار تلفزيونية اجتماعية وهو يقترب من منتصف الخمسينات، ثم صار جد العائلة المصرية في الطبقة الوسطى خلال التسعينيات، وتكلل ذلك بتقديم فوازير الأطفال "عمو فؤاد" خلال عدة مواسم رمضانية والبرنامج الإذاعي "كلمتين وبس" في الربع الأخير من القرن العشرين ومطلع القرن التالي.
يصفه المؤلف بأنه "بهلوان بالمعنى الاحترافي المبهر"، يجسد أيديولوجية الطبقة الوسطى من أصحاب المهن الحرة والموظفين والتي تنامت باضطراد منذ الثلاثينيات، مع تنامي شركات بنك مصر، واتخذت شكلا مستقرا واكتسب نموها إيقاعا متسارعا مع حركة يوليو 1952. ويغامر الخشاب فيسمي تلك المنظومة الفكرية التي مثلها "بأيديولوجية الفودفيل"، وفقا لاسم النوع المسرحي والسينمائي الفكاهي، الذي يعتمد المرح والخفة والإيقاع السريع والسعي وراء المتعة والتحرر في العلاقات بين الجنسين. يربطه بآباء الكوميديا المؤسسين فيوضح أوجه الشبه والاختلاف بينه وبين نجيب الريحاني وشارلي شابلن ونجوم الفكاهة في العالم، فقد تعامل المهندس مع الإنتاج الثقافي الغربي بمنطق التفاعل الخلاق.
أفلام ما بعد الهزيمة
يستغرق الخشاب في تحليل تاريخ الكوميديا في مصر والعالم بهدف التأطير لدور المهندس ويؤكد أن "الدور الذي لعبه فؤاد المهندس في المجتمع الناصري كان مقدمة للدور الذي لعبه عادل إمام في عهد مبارك"، وأحيانا أخرى يتطرق إلى الوقت الحالي وظهور "مسرح مصر"، مقارنا بين أغراض التسلية والإلهاء في العصور المختلفة، لكنه سرعان ما يعود لموضوعه الأصلي وهو رمزية دور فؤاد المهندس.
يركز في أجزاء كثيرة من الكتاب على أفلام الثلاث سنين الأخيرة من حكم عبد الناصر مثل "أخطر رجل في العالم" (1967)، "شنبو في المصيدة" (1968)، "العتبة جزاز" (1969 )، "سفاح النساء" (1970)، "إنت اللي قتلت بابايا" (1970)، ويقوم بتحليل مضمونها، قبل أن يصل إلى مرحلة "فيفا زلاطا" (1976) واستلهام صورة الكاوبوي أو راعي البقر على غرار النمط الأمريكي، الذي تضمن تكريسا لصورة الزعيم في مرحلة ما بعد التحرر بوصفه فتوة وشجيع لا يقهر، وفي ذات الوقت شمل سخرية لاواعية من الدعايات السياسية التي تمجد عبادة الفرد في الأنظمة الشمولية.
يبين بعدها مؤلف "مهندس البهجة" كيف شهدت نهاية السبعينيات سعي الدولة لإرضاء قوى اليمين المتطرف من الإخوان وسائر التيارات المحافظة الإسلامية وللتحلي بمظهر حامي الأخلاق وراعي القيم الدينية، ما أدى إلى التضحية بالفنانين وإلغاء مسلسل إذاعي للثنائي المهندس وشويكار بعنوان "سها هانم رقصت على السلالم" عام 1977، بحجة أن موضوعه بالغ في التحرر ولا يتماشى مع الروح الرمضانية.
كان في إلغاء المسلسل إشارة لانتهاء عصر وبداية آخر، ولكي يصل بنا الكاتب إلى هذه النقطة وما تلاها فقد استعرض بعمق وتفصيل ملامح تعاظم الكوميديا كظاهرة اجتماعية قومية واهتمام الدولة بإنتاج الفكاهة ضمن منظومة إنتاجية شاملة "من الإبرة للصاروخ، وفقا لشعار الدعاية الناصرية. لعبة التوازيات التي اعتمدها الخشاب من البداية للنهاية تسمح لنا بملاحظة أمور عدة، منها أوجه التشابه بين اقتصاديات الكوميديا والحديد والصلب في مرحلة بعينها، لنكتشف مثلا أن التحول من القطاع العام للخاص في مجال الحديد والصلب قد استغرق عدة عقود، بينما احتاج أقل من عقد في مجال المسرح الكوميدي. نرى بوضوح أن المجالات والتجارب قد تعددت، لكن ظل المنطق واحدا.
_____________________