يقدم كتاب "شعبي سيحيا" لليلى خالد سيرة ذاتية ثورية تتجاوز حدود السرد التقليدي، إذ يروي قصة النضال الفلسطيني من منظور شخصي، متتبعًا مسيرة البطلة منذ الطفولة في حيفا وصولًا إلى انخراطها في العمل الفدائي واختطاف الطائرات في الستينيات. ويقدم الكتاب قراءة للأيديولوجيات الثورية السائدة في الستينيات والسبعينيات، مع التركيز على الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، كما يسلط الضوء على التحديات التي واجهتها المرأة المناضلة في ذلك الزمن.
"حَنِيني يئِنُّ إِلَى أَيِّ شيءٍ، حَنِيني يُصَوِّبنِي قاتلاً أو قتِيلْ"، محمود درويش
خالد منصور [1]
قاد حنينٌ جارفٌ الفدائية الفلسطينية ليلى خالد إلى أن تأمر قائد الطائرة، التي اختطفتها من مطار روما بالتحليق فوق فلسطين، بعد نحو 21 عامًا من تهجيرها القسري هي وأسرتها على إثر النكبة، التي شهدت غارات عنيفة ومذابح نفذتها العصابات الصهيونية الإرهابية بحق الفلسطينيين. انضمت عائلة خالد، خوفًا أو قسرًا، إلى نحو 750 ألف فلسطيني أُجبروا على النزوح في الأشهر السابقة واللاحقة لإعلان قيام دولة إسرائيل في أيار/ مايو 1948.
منذ ذلك الرحيل الذي حاولت خالد، ابنة الرابعة آنذاك، تفاديه بالاختباء داخل منزل العائلة في شارع ستانتون في حيفا، ظل "الحرمان" شعورًا مهيمنًا على حياتها، وصار العمل من أجل التخلص منه، عبر العودة ورفع الظلم التاريخي، دافعًا لعملها السياسي والفدائي. إنه نفس الشعور المتجسد في أيقونة مفتاح المنزل، المفتاح الذي سيعود بصاحبته لبيتها الأصلي، وحياتها التي باتت مكرسة لهذا الحلم، والذي صار رمزًا لحلم/حق العودة في اللوحات والمطرزات والذاكرة الجمعية الفلسطينية.
كان الحرمان مضاعفًا: من الوطن الأصلي ومن العثور على وطن آخر مقبول
تستعيد خالد في سيرتها الذاتية، التي كتبها جورج حجّار "شعبي سيحيا"،[2] ذكريات الرحيل المرّ وتصف كيف غادر "معظم عرب حيفا، البالغ عددهم ثمانين ألف ... المدينة دون أن يستميتوا في الدفاع عنها، وكان ذلك في جو من الإرهاب". وتتابع سردها لتروي كيف تمكن والدها "من أن يصل إلى صور ... وهو خالي الوفاض، بعد أن عمل ثلاثين سنة بكدّ واجتهاد. وحين لم يُسمح له بأن يصبح مواطنًا لبنانيًّا، شعر في أعماقه كيف يكون الإنسان مرفوضًا، فهو، إذ طُرد من بلده، مُنع من أن يصبح مواطنًا في بلد عربي مجاور، وهكذا بقي منفيًّا في لبنان إلى يوم وفاته في 1966. وكان في هذه السنوات الثماني عشرة يحلم بالعودة إلى حيفا. وأنا، ابنته، أحاول اليوم تحقيق حلمه هذا، وسأكون عند حسن ظن أبي ووطنه. وإذا عجزت أنا عن العودة والعيش حرة في فلسطين، فأولادي سيفعلون."
فقدت الأسرة ممتلكاتها ومكانتها كعائلة من الطبقة الوسطى في فلسطين، ولم تنعم بحياة مستقرة في لبنان. إذ سُلب من ليلى، ومن غالبية الفلسطينيين، سواء من هُجِّر منهم ومن بقى ومن صار خاضعًا للاحتلال، حق كان قد بات أمرًا مسلمًا به في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية: حق أن تكون مواطنًا في دولة. ولم تتوانَ الأم عن تعميق هذا الفقد في وعي أبنائها، كما تتذكر خالد: "كانت حياتنا في المنزل تعيسة، وكلما طلبنا شيئًا من والدتنا، كنا نُجابه بالرفض مصحوبًا بالتفسير ذاته: 'نحن لسنا في فلسطين ' ... كل الحرمان الذي عشناه كان يرجع إلى سبب واحد، نحن لسنا في فلسطين. عندما كبرنا بدأنا نعي أننا بالفعل لن نحصل على أي شيء ما دُمْنا خارج فلسطين." هكذا، ولدت في نفس خالد فكرة العودة لتكون، عاطفيًا على الأقل، الطريق لاستعادة الحق في الرغبة، بل وإشباعها.
في التاسع والعشرين من آب/ أغسطس 1969، وعندما تبيّنت لخالد ملامح حيفا من قمرة قيادة طائرة TWA الرحلة 840، اجتاحتها مشاعر حادة بالفقد واللوعة. ربما أدركت في تلك اللحظة، بالرغم من شعورها بانتصار ما، استحالة العودة. ومع هذا ظل الماضي والحنين يهيمنان على حياة خالد، ومنهما على الأغلب نبعت محاولاتها المستمرة، عنفًا وسلمًا وسياسةً، لاستعادة ما أُخذ عُنوة من الفلسطينيين، وهي استعادة تبدو أكثر استحالة مع مرور السنوات، حتى في ظل أفضل تسوية سياسية ممكنة.
وما بين هذا الحنين المهيمن والعمل السياسي والفدائي الدؤوب، تبدو خالد في الكتاب وكأنها في محاولة سيزيفية لرأب الصدع بين الحنين من ناحية، وبين تحقيق أشواقها عن طريق العودة من ناحية أخرى، فلم تعد هي تلك الطفلة ذات الأربع سنوات، ولم تبقَ حيفا على حالها كما كانت في 1948. فاقمت الظروف السياسية والعسكرية بعد هزيمة 1967 الساحقة من هذا الصدع، وجعلت العودة حلمًا بعيد المنال.
سيرة امرأة أم سيرة الجبهة الشعبية
يعتمد كتاب "شعبي سيحيا" على حوار امتد ثلاثين ساعة وجرى في شهر تموز/ يوليو 1971. كان حجّار، الأكاديمي لبناني الأصل والثوري الأممي، عائدًا من نحو عشرين عامًا من الهجرة إلى كندا والولايات المتحدة، وذلك عقب فصله من جامعة كندية بسبب مواقفه السياسية الداعمة لفلسطين، خاصة بعد وصفه لإسرائيل في لقاء عام في تورنتو بأنها كيان "عنصري، إمبريالي وفاشي".
مقدمة الكتاب، وما يبدو أنها تدخلات نظرية وتحليلات سياسية مبثوثة في أنحاء السيرة، تلخص أفكار ومواقف الجيل المؤسس للحركة الشعبية لتحرير فلسطين وزعيمها جورج حبش. والتي ترى أن إسرائيل جزء من مشروع استعماري إمبريالي، وليست فقط تعبيرًا عن نجاح الحركة الصهيونية بسبب عملها الدؤوب على مدى عقود، تمفصلت فيها هذه الحركة سياسيًا وتكنولوجيًا واقتصاديًا مع عواصم غربية رأسمالية، واستغلت مشتركات ثقافية، منها العنصرية الاستيطانية القادمة من قلب مشاريع الاستعمار، لتصبح إسرائيل آخر تجلياتها. وكانت النتيجة المنطقية لمثل هذا التحليل هو أن أي مشروع يستهدف الخلاص من هذا الوضع، ويمكّن الفلسطينيين من حق تقرير المصير كشعب يعيش تحت الاحتلال، فضلاً عن حق العودة للملايين من الفلسطينيين في الشتات، سيتعين عليه اللجوء إلى العنف لفتًا للأنظار وإجبارًا للطرف الآخر على القبول بحل مناسب. وتدّعم هذا الموقف مع نجاح الجزائر في إنهاء الاستعمار الاستيطاني الفرنسي عن طريق العمل المسلح، وكذلك تغلب الفيتناميين على الجيش الأمريكي في حرب شعبية.
وهكذا وُلِد هذا الكتاب بفعل قرار من قيادة الجبهة الشعبية التي أرادت استغلال شهرة خالد لنشر أفكارها. ولذلك، صدرت نسخته الأولى باللغة الإنجليزية ولاقى نجاحًا كبيرًا، مما دفع إلى ترجمته إلى عدة لغات، منها العربية والفرنسية واليابانية والأُردية.
يظل كتاب خالد رغم صدوره منذ أكثر من خمسين عامًا، إلى جانب لقاءاتها اللاحقة، مفتاحًا مهمًا لفهم رؤية النضال الفلسطيني عمومًا في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، وهي مرحلة فارقة تحوّل فيها جوهر الصراع من مواجهة بين العرب وإسرائيل إلى نضال فلسطيني (ضد إسرائيل وفي أحيان كثيرة ضد دول وأنظمة عربية). ينطلق الكتاب أحيانًا من منظور امرأة محكومة في نواح متعددة من حياتها بنظرة المجتمع وقيمه ونواهيه، ليقدم مثالًا عمّا يمكن لامرأة مثابرة قوية الشخصية وحادة الذكاء ولبقة أن تحقق رغم القيود. ومع ذلك، فهذا ليس كتابًا من منظور نسوي. فقد كانت خالد واضحة بأنها لم تناضل بالأساس من أجل مساواة المرأة، رغم محاولاتها الدؤوب على أن تُعامل مثل الرجال وتحصل على ما يحصلون عليه من مناصب. ولكنها ناضلت، شأنها شأن الكثير من النساء العربيات واليساريات في العالم الثالث في ذلك الزمن، من أجل حق تقرير المصير في وطن تحكمه فلسفة اشتراكية.
لم تكن خالد تريد العمل في قضايا المرأة رغم مطالبات حبش بذلك، حيث نظرت للعمل العام بصفته حق لها، مثلها مثل الرجل، وأنه الطريق الأفضل لتحقيق المساواة بين الجنسين. تبنت خالد بذلك موقفًا يساريًا كلاسيكيًا تجاه نضال المرأة يضع الأولوية للتحرر الوطني قبل التركيز على قضايا المرأة، مما وضعها في صدام مع نسويات غربيات. ويظهر هذا الموقف جليًا في الحوارات التي وردت في كتاب سارة إِرفنج، المعنون بـ"ليلى خالد: أيقونة التحرر الفلسطيني".[3] إذ ترى خالد أنه "بعد التحرر الوطني سيكون هناك نضال يستمر أجيالًا، حيث سيفقد الرجال قسطًا كبيرًا من سلطتهم ومميزاتهم مع حصول النساء على حقوقهن".
ولكن مع مرور الوقت، أدركت خالد أن انخراط بعض النساء في مهام ووظائف كانت حكرًا على الرجال، مثل النضال المسلح، ليس سبيلًا سهلًا أو مضمونًا لتحقيق المساواة؛ إذ كانت هناك عوائق هيكلية، منها هيمنة الرجال على القرارات السياسية والعاطفية، إلى جانب تحمل المرأة المتوقع للأعمال المنزلية وأدوار أخرى غير مدفوعة الأجر. وتقرّ خالد بصعوبة التحرر من هيمنة الثقافة الذكورية، لكنها آمنت بأهمية التدرج في هذا المجال، خاصة عند مواجهتها ناشطات نسويات في السبعينيات كنّ ينادين بالمساواة الكاملة، حتى في تقاسم العمل داخل المنزل. تصف خالد هذه المواجهات قائلة: "ناقشنا الكثير من هذه الأفكار داخل الحزب، وكان البعض يؤكد تقديم تلك الأفكار بالتدريج حتى لا نخيف الأعضاء الرجال في الحزب، ناهيك عن استقطاب أعضاء جدد قد لا يحبذون الانضمام إلى حزب يدعو إلى مساعدة الزوجات في غسل الصحون."
لم يكن انضمام خالد إلى صفوف العمل السياسي في سنوات المراهقة، في نهاية الخمسينيات، مع حركة القوميين العرب (التنظيم الأم الذي خرجت منه الجبهة الشعبية) أمرًا يسيرًا. اعترضت والدتها، مستندة إلى تقاليد المجتمع وخشية على سمعة العائلة. إلا أن والدها وشقيقها، وكلاهما كان مناضلًا، نجحا في إقناعها، مستشهدين بنموذج النساء الإسرائيليات اللواتي قاتلن جنبًا إلى جنب مع الرجال الصهاينة، في وقت حُكِم فيه على نصف الشعب الفلسطيني (النساء) بالبقاء خارج هذه الساحة. وعندما أعلنت حركة القوميين العرب عن تدريب أول كتيبة مقاتلين، سعت خالد للانضمام، رغم اعتراض المنظمين بحجة قسوة الطقس، وصعوبة التدريبات، و"الحرج" من وجود امرأة في الفرقة. إلا أن خالد، التي كانت عضوة في المكتب التنفيذي للطلبة الفلسطينيين في الجامعة، رفضت هذه الحجج بحزم، ونجحت في الالتحاق بالتدريبات.
لم تكن موافقة الأب على عمل ابنته في السياسة، وهي لم تتجاوز الرابعة عشرة من عمرها، تعني أنه كان يساوي بين الفرص المتاحة لأبنائه الثلاثة عشر. فعندما تفوقت خالد في امتحان البكالوريا على شقيقها محمود، فضّلت العائلة، التي كانت قادرة على تحمل مصاريف شخص واحد فقط للجامعة، إرسال الابن. عندها، تدخل شقيقها محمد الذي كان يعمل في الكويت لتغطية نفقات دراستها، مما مكنها من الالتحاق بالجامعة. غير أن هذا التدخل كان مؤقتًا، إذ عجز شقيقها عن الاستمرار في تقديم هذا الدعم في العام التالي، ما اضطر خالد إلى ترك الجامعة الأمريكية في بيروت والسفر إلى الكويت للعمل في التدريس.
وفي الكويت، شقت خالد لنفسها طريقًا نحو العمل الفدائي، إذ مدت جسور اتصال مع حركة فتح، ثم مع الجبهة الشعبية، التي فضّلتها بسبب ميلها للأفكار الاشتراكية القومية التي تشربتها من أشقائها الستة الذين انضموا إلى حركة القوميين العرب. وعندما قررت خالد مغادرة الكويت لتلتحق بمعسكرات الجبهة، قوبل قرارها برفض من والدتها، إذ كانت الأسرة بحاجة إلى دخل الابنة، خاصة بعد طرد شقيقها الأكبر من الكويت بسبب نشاطه السياسي. لم يكن هذا رفضًا متكررًا من الأم للعمل المقاوم برمته، حيث اقترحت أن يلتحق شقيقان بمعسكرات التدريب عوضًا عن الابنة العاملة! ولكن خالد انتصرت ثانية ونالت ما رغبت فيه.
لم يقتصر هذا النجاح في مواجهة ضغوط الأسرة والمجتمع على العمل العام فقط، بل انعكس أيضًا في حياتها الخاصة وعلاقاتها العاطفية المبكرة في شبابها في لبنان، حيث تحدّت القيم التقليدية المحافظة، وتشير خالد لهذا دون تفصيل عندما تقول: "كان لي من أعاشره تمامًا، لكني لم أقع في غرام أحد." لم يستغرق النضال كل حياة ليلى، حيث كانت حياتها الأسرية حافلة؛ فقد تزوجت ثلاث مرات، أولها في معسكرات التدريب في الأردن في الستينيات من مناضل عراقي، والأخيرة في غمار الغزو الإسرائيلي للبنان في مطلع الثمانينيات. وبعد أشهر من هذا الزواج الأخير من رفيقها المناضل والطبيب الأردني فايز رشيد، فرت خالد معه إلى دمشق بسبب التقدم في شهور حملها والخطر الماثل في غزو القوات الإسرائيلية للبنان. تتحدث خالد بأريحية في كتابها عن اللحظة التي أبلغتها الطبيبة فيها، وهي جالسة تدخن في مقهى بدمشق، بأنها على وشك الولادة وعليهما التوجه إلى المستشفى فورًا.
بعد ولادة طفلها بدر في دمشق عام 1982، تبدلت اهتمامات خالد وصارت تشمل تشجيع الدعم المجتمعي للنساء لتمكينهن من ممارسة السياسة والنضال من أجل القضية حتى بعد الإنجاب ومع الأعباء المنزلية غير المتوازنة الملقاة على عاتقهن. أصبحت خالد حينها عضوة في اللجنة المركزية للجبهة الشعبية، ورأت كيف تنسحب النساء من العمل العام بسبب "صعوبة التوفيق بين عملهن السياسي والنضالي، وحياتهن العائلية، كما انتهت عدة زيجات في أوساط الجبهة بالطلاق".
لم تكن خالد أول فدائية فلسطينية، لكنها تظل الأشهر بينهن؛ فقد سبقتها أمينة دحبور بعدة أشهر عندما أطلقت النار على طائرة إسرائيلية في مطار زيوريخ، ورشيدة عبيدة التي كانت تدرب المقاتلات الفلسطينيات، وشادية أبو غزالة التي ماتت بسبب انفجار وقع أثناء تصنيع متفجرات في منزلها. ولم تواجه خالد محاولات المجتمع الذكوري المحلي حصرها في أدوار محددة بسبب نوعها وجنسها فحسب، بل واجهت أيضًا تحديات مماثلة في الغرب، حيث جرى تحويلها إلى أيقونة شملت وصفها في تعليقات صحفية بأنها إرهابية جميلة تشبه ممثلات هوليوود. وعندما اُحتجزت في قسم شرطة إنجليزي عقب فشل عملية خطف طائرة في عام 1970، جلبت لها الشرطة مجلات نسائية للتسلية، غير أن خالد أصرّت على أن تتلقى الصحف اليومية العادية. وفي مقابلات متعددة مع صحفيين غربيين، واجهت أسئلة متكررة حول حياتها العاطفية، ممارسة الجنس في مجتمع محافظ، الخ. ويلخص معلق تلفزيوني أمريكي هذه النظرة واصفًا خالد بأنها: "فتاة ليست غير جذابة، يشعر معها الفلسطينيون أنها تمنح حركتهم بريقًا ولمعانًا" أنثويًا.
من ساحات النضال العربي إلى ساحات المقاومة الفلسطينية
تقدّم خالد صورة شخصية ثورية مستعدة للتضحية، ملتزمة بأساس أخلاقي قوي لقضيتها وإيمان بالنصر يرتكن على حتمية نجاح الاشتراكية. ومثل رفاقها في التيار الشيوعي الثوري الخارج من رحم القومية العربية، آمنت خالد أيضًا في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي بأهمية النضال العربي المسلح ضد إسرائيل عبر حدود بلدان الطوق المحيط بالدولة الصهيونية.
وناسبت الجبهة الشعبية خالد حيث قدمت مزيجًا من الاشتراكية والقومية العربية، وقامت على وجود أمة عربية يقودها "العمال والعاطلين عن العمل واللاجئين والمظلومين في كل مكان"، مما يجعل الطريق نحو إنهاء وجود إسرائيل كدولة استعمارية عنصرية واستعادة الكرامة الفلسطينية والتحرر الطبقي يمر عبر مواجهة الأنظمة العربية "الرجعية".
بعد مرور نحو ستين عامًا على ولادة هذا الحلم، تعمّقت لا واقعيته، ليس فقط لأنه فشل تمامًا خلال هذه العقود المنقضية، بل لأن هذا الحلم تجاهل آنذاك الوجود المادي الراسخ للدول العربية ومصالحها المتباينة، كما أغفل ديناميكيات الحرب الباردة، التي نالت إسرائيل تأييد أقوى المشاركين فيها من واشنطن حتى موسكو. تبنت خالد ورفاقها تحليلًا طوباويًا للمجتمع الدولي الذي كانت قواه الكبرى، بما فيها روسيا والصين، تؤيد بقاء إسرائيل وترغب في الوصول لحل سلمي. وغلب تفاؤل غير مبرر على تفكير الجبهة الشعبية آنذاك بشأن المستقبل، حيث اعتقد منضوين تحت رايتها أن الستينيات كانت عقد الجبروت الأمريكي وأن السبعينيات ستكون عقد "الانهيار والخراب التام" للولايات المتحدة!
في الستينيات، كانت خالد، مثلها مثل الشيوعيين القوميين، تدافع عن تدخل عبد الناصر العسكري في اليمن كونه تعبيرًا عن "تضامن عربي ضد الرجعية وأذناب الإمبريالية"، وتأكيدًا على أن "نفط العرب وثرواته يجب أن تكون لكل العرب". ومن هذا المنطلق، تصير الدول العربية مجرد ستار وحاجز دون جلاء الهوية العربية الأعمق والأكثر صلابة والتي تجمع كل شعوب المنطقة. إلا أن نضال الجبهة الشعبية تجاهل اعتبارات وأولويات الدول العربية ومجتمعاتها، ناهيك عن هيمنة أنظمتها السلطوية العسكرية وتغوّل أجهزة مخابراتها، فضلًا عن هشاشة بعض تركيباتها الاجتماعية التي عجزت الدولة عن استيعابها واحتوائها. وقد أدى هذا إلى مواجهات دموية واسعة النطاق، مثل أحداث "أيلول الأسود" في الأردن عام 1970، والحرب الأهلية في لبنان (1975-1990) وخاصة حرب المخيمات، إضافة إلى توظيف التنظيمات الفدائية من قبل بغداد وعواصم عربية أخرى لخدمة مصالح سياسية لهذه الأنظمة. في المقابل، فرضت مصر حظرًا تامًا على أي نشاط عسكري فلسطيني على أراضيها، مكتفية بالسماح بالنشاط السياسي تحت رقابة مشددة من أجهزة الدولة.
وسط هذه التحديات، تضاءلت إمكانيات العمل المسلح في تحقيق التحرر الفلسطيني خاصة بعد هزيمة 1967، بل ولبضع سنوات تراجعت الحرب في قائمة الخيارات المتاحة لدفع إسرائيل لقبول حلول سياسية، حيث أدركت كل الدول المجاورة مدى التفوق العسكري الإسرائيلي. في ذلك السياق، تبجّح موشي ديان قائلاً إنه ينتظر بجوار الهاتف اتصالًا من عبد الناصر يعرض فيه الاستسلام. وعلّقت خالد في كتابها قائلة: "والحق أن أي زعيم عربي لا يتجرأ على عقد صلح في المستقبل مع ديان أو أي طاغية صهيوني آخر، ما لم يكن ينوي الانتحار." لكن بعد نشر كتابها بأربع سنوات، كان الرئيس محمد أنور السادات يصافح ديان في القدس، مدشّنًا مبادرة سلام انتهت بصلح مصري منفرد مع إسرائيل في عام 1979.
عندما صار الخطف فعلَ مقاومة
رغم اختلاف خالد مع عبد الناصر لمعارضتها حكم الضباط المتحالفين مع طبقة برجوازية، إلا أن هزيمته وانسحاق الجيش المصري عام 1967 أصاب خالد بصدمة هائلة، وصفتها قائلة: "حطّمتُ الراديو وغرقتُ في فترة طويلة من الصمت… انهار عالمي بالكامل، وخُيّل إليّ أن كل عربيّ أصبح الآن عبدًا. والأسباب التي كنت قد هيأتها للعودة إلى فلسطين ... ذهبت مع الريح ... وبقيت منكمشة على نفسي نحو الشهر." سيزول هذا الانكماش لدى خالد ولدى التنظيمات الفلسطينية، ويولد التفكير في وسائل أخرى للمقاومة.
ومع إقرارها بعدم وجود أوهام حول إمكانية الانتصار على إسرائيل عن طريق العنف، ترى خالد أن خطف الطائرات والهجمات على أهداف إسرائيلية وإمبريالية كان يستهدف "دب الرعب في قلب العدو، وحشد جماهيرنا، وتدويل قضيتنا. وتأليب قوى التقدم إلى جانبنا، وعرض شكوانا وظلامتنا أمام رأي عام غربي يعمل بوحي الصهيونية ويتأثر بدعايتها." يصير الخطف والعنف المسلح عمومًا، في هذا الإطار، ليس سلاحًا استراتيجيًا لتحقيق الأهداف العريضة، بل مجرد مدخل تكتيكي من جانب الطرف الأضعف. وهنا أيضًا، وللتغلب على الاعتراضات الأخلاقوية، يصير كون المرء ضحية مبررًا لما يفعل، وهو ما تراه خالد سلوكًا مبررًا أخلاقيًا. ويتضح هذا بشكل أكبر في كلمات حبش الذي قال: "بعد 22 عامًا من الظلم والعيش البائس في المخيمات، أخذنا نشعر بأن لنا الحق في أن نحمي ثورتنا. وقانوننا الأخلاقي هو ثورتنا، ما يخدم ثورتنا ويساعدها ويحميها هو حق، وحق لا نزاع فيه وشريف ونبيل ورائع، لأن ثورتنا هي العدالة، وهي استعادة بيوتنا وبلادنا، وهذا هدف عادل ونبيل حقًا."
ورغم ذلك، ترددت خالد عندما وصلت إلى مطار فيومتشينو في روما، حيث كانت تتأهب لخطف طائرة من طراز بوينج تابعة لشركة أمريكية، إذ رأت فتاة تلاعب شقيقتها الصغرى، وفكرت في أن حياة هاتين الفتاتين ستتعرض للخطر بسبب عمليتها الوشيكة. إلا أن ما ساعدها على تجاوز ما وصفته بـ"العنصر البشري" المعطِّل هو استحضارها لعنصر بشري آخر دفعها للمواصلة، وهو "تاريخ فلسطين وأطفالها ... شعبي جائعا وعاريا من دون مأوى ...الأطفال المشردين في مخيم قرب عمّان ... وهم في حالة شديدة من البؤس والفاقة ... ويقولون: نحن أيضًا أطفال، ومن أبناء الجنس البشري، وهكذا تشددت عزائمي."
لم يُقتل أيّ من الركاب في عمليات اختطاف الطائرات التي نفذتها الجبهة الشعبية، والتي كانت تهدف أساسًا إلى لفت أنظار العالم إلى وضع الشعب الفلسطيني المحتل. وبعد تفجير طائرات اُختطفت إلى الأردن في عام 1970، توقفت الجبهة عن استعمال هذا التكتيك، إلا أن العقل المدبر لهذه العمليات، وديع حداد، كان وراء عملية اختطاف طائرة في عنتيبي في أوغندا عام 1976، حيث قتل رجال أمن إسرائيليون عددًا من الخاطفين وبعض الرهائن. ومن بين القتلى الإسرائيليين في هذه العملية كان يوناتان نتنياهو، شقيق رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي.
خلال التحقيق معها في دمشق بعد أن هبطت هي ورفيقها الفدائي سليم العيساوي في مطار العاصمة السورية بحمولتهم من الركاب على متن الطائرة الأمريكية المختطفة، قالت خالد للعقيد الذي استجوبها في المخابرات السورية إنها جندية مثله. فرد عليها الرجل بغضب، قائلًا إنها تنتمي لمنظمة إرهابية. سخرت قائلة إنها لم تعد تدري هل هي في إسرائيل أم في سوريا "المدافعة عن الحرب الثورية!".
مكثت خالد 45 يومًا في قبضة الأمن السوري، منها أربعة أيام في حبس انفرادي، نُقلت بعده إلى المستشفى بسبب إضرابها عن الطعام وتدهور صحتها. وفي زنزانتها لم تكن خالد تستطيع النوم وهي تسمع صرخات المساجين أثناء تعذيبهم. وعندما زارها رئيس الأركان مصطفى طلاس وبّخها على هبوطها بهذه الطائرة المخطوفة في دمشق، مدعيًا أنها كانت جزءًا من خطة مصرية لإحراج النظام السوري! وهو ما كرره وزير الدفاع آنذاك حافظ الأسد، مدعيًا أن عملية خطف الطائرة كانت من تنفيذ المخابرات المصرية كيدًا في النظام الثوري السوري. ردّت خالد بسخرية مفادها أن أجهزة المخابرات العربية "التعسة" عاجزة عن مجرد التفكير والتخطيط لعملية جريئة تماثل ما قامت به.
ورغم انكشاف طبيعة النظام السوري المعني بالدفاع عن دولة يهيمن عليها، وما قام به لاحقًا ضد المخيمات الفلسطينية في لبنان وسوريا منذ السبعينيات، ستعلن خالد مرارًا تأييدها له، حتى بعد تحول قمعه الدموي من قتل وتعذيب آلاف البشر في السجون على مدى نحو أربعين عامًا، إلى قتل وجرح وتهجير ملايين السوريين عقب اندلاع الانتفاضة الشعبية ضد نظام الأسد البعثي في العقد الماضي.
يمكن القول الآن إن عمليات خطف الطائرات والعنف المسلح في تلك المرحلة أخفقت في تغيير دفة المواجهة، غير أن هذا الحكم يأتي بأثر رجعي ويتغافل عن أن الإخفاق الحقيقي كان في مجال السياسة والدبلوماسية، ويتجاهل سياقًا مستمرًا منذ بداية النضال الفلسطيني في عشرينيات القرن الماضي حشر الفلسطينيين في زاوية خيارات تكاد تكون كلها سيئة، ودفعهم في أحيان كثيرة دفعًا للجوء إلى العنف، حتى لو كان ذا طابع انتحاري، سواءً بمعناه الحرفي أو المجازي.
كانت خالد في الستينيات والسبعينيات ابنة الرعيل الأخير من حركات التحرر الوطني التي اعتمدت على السلاح. ولذا، كان مثلها الأعلى المناضل الأرجنتيني الأممي تشي جيفارا، وكانت مقاربتها للعمل النضالي ترتكز على أهمية التضحية وبذل الروح، والعداء للسياسة التي تعتمد على الحلول الوسط والعمل طويل الأمد والنفس.
بين الضمير والسلاح
تقدم خالد في الكتاب وفي مقابلات لاحقة إشارات حول كيف أن التصميم على تحقيق هدف أسمى وعادل قد يؤدي إلى تبرير عواقب محتملة غير مقصودة، أو قبول التأثير السلبي للوسائل المستخدمة لتحقيق هذا الهدف على أطراف أخرى، خصوصًا الأطراف الأضعف ممن لا يملكون القدرة على الرد، مثل المدنيين والمحايدين في مناطق القصف والكر والفر بين المتقاتلين. ويصبح هذا الوضع أكثر تعقيدًا عندما يكون الخصم، مثل إسرائيل، قادرًا على تجاهل وانتهاك معظم القواعد الأخلاقية والقانونية التي تنظم الصراعات المسلحة، دون أن يتحمل أي عواقب.
وتقدم خالد أيضًا مثالًا على القدرة على تغيير المسار وإعادة التفكير في جدوى وسائل بعينها، خاصة عندما تصبح الخسائر شخصية. فقد شعرت أنها مسؤولة بشكل أو بآخر عن مقتل شقيقتها وخطيبها، اللذين كانا ينتظرانها في شقتها في بيروت عندما اقتحم المكان مسلحون يُحتمل أنهم عملاء إسرائيليون في أواخر عام 1976. وعقب هذه المأساة، قررت خالد هجر العمل المسلح احتجاجًا على وجود اختراق للمنظمة، وكرست جهودها للعمل في الاتحاد النسائي. لكن عندما غزا الإسرائيليون لبنان عام 1982، أصاب الذعر أهالي القرية التي كانت تقيم فيها خالد في الجبل، خشية أن يُعرّضهم وجودها بينهم للخطر مع انتشار القوات الإسرائيلية في شوارعهم. وعندما فرت بمساعدة إحدى صديقاتها إلى بيروت، كان اللاجئون المختبئون خلال القصف يخشون أن يتسبب وجودها بينهم في استهداف مخابئهم.
كانت ليلى واضحة في رفضها استهداف المدنيين لدى الطرف الخصم، مستهجنة ما حدث في "هجمات 11 سبتمبر". ولعل المعضلة القانونية والعملية هنا هي أن ميليشيات وفدائيي المقاومة هم أنفسهم كانوا، إلى حد ما، ينتهكون قواعد الحرب، ويعرضون المدنيين المحيطين بهم للخطر بشكل غير مباشر. كما أن وجودهم وأسلحتهم أحيانًا يمكن أن تعرض الأهداف المدنية لفقدان الحماية المقررة لها بموجب القانون الدولي. في نهاية المطاف، يظل القانون الدولي الإنساني والقوانين المشابهة هياكل لتنظيم العنف، وإضفاء المشروعية على جانب منه دون الآخر، وغالبًا في مصلحة الدول واضعة هذه القوانين والمسيطرة على مؤسسات تنفيذها، هي وحلفاؤها.
ربما لم يتبقَّ من كل هذا النضال التراجيدي سوى ملامح رمزية مهمة وحنين سادر إلى ما كان وما لن يعود، وبضعة أفراد يخطون نحو عقدهم السابع والثامن وهم يشاهدون إسرائيل تلغ في دم الفلسطينيين، ثم اللبنانيين، في محاولة جديدة بالغة الدموية لإخضاعهم وقبول العيش كـ "حيوانات بشرية" بلا حقوق. تمكنت خالد عبر لينا مقبول، المخرجة السويدية من أصل فلسطيني، من الحصول على بلاطة قيشاني وحجر من بيت عائلتها في حيفا. نثرت خالد بعضًا من رماد هذه الهدية على قبور أسرتها في صور. وعندما سُئلت عمّا تريد العودة إليه، خاصة وأن بيتها القديم في حيفا على وشك الانهيار، قالت: "أنا عندي حلم بس تتحرر فلسطين بدي أروح وأقعد تحت شجرة، وأقعد تلات أيام أنام تحتها. وبس أشم ريحة التراب، وأقعد تحت هاي الشجرة .. مش مشكلة البيت، المشكلة الوطن .. المهم نرجع .. على حيفا."
يخلق حلم العودة والحنين لما ضاع بعضًا مما يلزم من دافع ووقود للمقاومة، مصحوبًا بالرغبة الإنسانية في الكرامة والمساواة. وهكذا، ورغم أن العودة المكتملة باتت مستحيلة، تستمر المقاومة محتومة رغم انحشارها في زاوية خيارات صعبة بأثمان باهظة.