يقدم حسين أمير عبداللهيان في كتابه "صبح الشام"، رواية رسمية إيرانية عن الأزمة السورية من منظور دبلوماسي شارك في إدارة الملف عن قرب. يوثق الكتاب السياسة الخارجية الإيرانية تجاه سوريا بين عامي 2011 و2020، ويعرض بالتفصيل دوافع طهران الاستراتيجية، دور قاسم سليماني في القرار السياسي والعسكري، وآليات صنع القرار داخل النظام الإيراني. يتبنى المؤلف سردية متماسكة تقوم على نظرية المؤامرة وتبرير التدخل الإيراني، متجاهلاً مسؤولية النظام السوري عن الكارثة الإنسانية، ما يجعل الكتاب أقرب إلى بيان سياسي منه إلى مذكرات شخصية.
فوزي الغويدي[1]
ثمة مذكّرات تُكتب لتُقرأ، وأخرى تُكتب لتُفهم، وثالثة تُكتب لتُبرّر ما قد يبدو قابلًا للتبرير. وكتاب "صبح الشام: رواية عن الأزمة السورية - مذكّرات الدكتور حسين أمير عبداللهيان"[2] ينتمي إلى هذه الفئة الأخيرة. لكنه، رغم ذلك - أو ربما بسبب ذلك تحديدًا - يستحق القراءة والمساءلة؛ فهذه ليست مجرد مذكّرات دبلوماسي، بل تمثّل الرؤية الإيرانية الشاملة لغرب آسيا، وتشكّل خارطة طريق لفهم سياستها الخارجية، لا سيّما في سياق "الأزمة السورية" كما يصفها أمير عبداللهيان[3].
يقدم الكتاب السردية الإيرانية الرسمية حول الربيع العربي بشكل عام، وحول الثورة السورية وتحوّلاتها بشكل خاص. ولو كان للسرديات الرسمية رائحة، لكانت رائحة هذه المذكرات مزيجًا من عطر النصر، وبارود المعارك، وبخور الدبلوماسية. فلقد دوّنها الراحل حسين أمير عبداللهيان، حين شغل منصب معاون وزير الخارجية الإيراني للشؤون العربية والأفريقية، خلال الفترة من عام 2011 إلى عام 2020. وقد حملت المذكرات عنوانًا شاعريًا لا يخلو من دلالات رمزية عميقة؛ فـ "صبح الشام"، أو "فجر دمشق"، ليست مجرّد توثيق لذكريات دبلوماسي، بل هي أشبه ببيان سياسي، وتأريخ انتقائي لدور إيران في إحدى أكثر الأزمات الإقليمية تعقيدًا وتأثيرًا. ويشكّل هذا العمل وثيقة تاريخية بالغة الأهمية لفهم عملية صنع القرار الإيراني، ودور طهران في أحد أبرز الصراعات الإقليمية خلال العقد الماضي، لا سيّما أنّه يُعدّ أول رواية رسمية إيرانية شاملة عن أزمة دولية كبرى، كما وصفها الإعلام الإيراني.
صدرت المذكرات عام 2023 عن دار المحجة البيضاء في بيروت، بعد أن نُشرت أولاً بالفارسية عن دار "سروه مهر" للنشر في طهران عام 2020. وقد حققت انتشارًا واسعًا في إيران، إذ وصلت إلى طبعات عديدة خلال أشهر قليلة، مما يعكس حجم الاهتمام بالمحتوى في الأوساط الثقافية والسياسية الإيرانية.
خط زمني مُنتقى بعناية
يمتد الإطار الزمني للكتاب من عام 2011، حين توّلى عبد اللهيان منصب معاون وزير الخارجية للشؤون العربية والأفريقية، وحتى عام 2020، عندما أصبح وزيرًا للخارجية. يتألّف الكتاب من ثلاثة أقسام رئيسية: يناقش القسم الأول دوافع القرارات الإيرانية تجاه سوريا، ويستعرض الثاني الجهود الدبلوماسية المصاحبة لهذه القرارات، فيما يخصّص القسم الثالث لشخصية قاسم سليماني وأدواره المتعددة. يولي الكتاب اهتمامًا خاصًا بشخصية قاسم سليماني، الذي يصفه المؤلف بـ"البطل الأممي في مكافحة الإرهاب." ويكشف عبد اللهيان أن فكرة تدوين هذه المذكرات جاءت بناءً على طلب مباشر من سليماني قبل عام من اغتياله، إذ شدّد على "إيصال رسالة البسالة والشهادة والشجاعة، وعلى الجانب الآخر توثيق الجرائم والخيانة التي حصلت في سوريا ومنطقة غرب آسيا."
يبدأ المؤلف في مقدمة الكتاب بتأطير تاريخي للعلاقات الإيرانية-السورية منذ استقلال سوريا عام 1946، مؤكدًا عراقتها وثباتها: "بدأت علاقات طهران - دمشق الدبلوماسية في العام 1326 الهجري الشمسي (1946 ميلادي)، أي عام استقلال سوريا، ولم تشهد هذه العلاقات يومًا، خلال تاريخها، أثرًا للعداوة أو التوتر والاضطرابات"[4]. لكنه يستدرك بلغة دبلوماسية: "وإن اتسمت إبان حكم البهلويين بالبرودة بسبب طبيعة النظام الحاكم في سوريا والنظام الملكي في إيران"[5]. مؤكدًا أن هذه العلاقات "لم تشهد أي توتر" حتى أقام الشاه علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، والتي شكّلت نقطة خلاف جوهرية.
يمر الكاتب سريعًا على العقود الأولى من العلاقات، ليتوقف مطولًا عند نقطة تحوّل محورية، هي الحرب العراقية- الإيرانية، حيث يقول:"عندما شنّ صدام وحزب البعث الحرب المفروضة على الجمهورية الإسلامية، أعلنت سوريا وقوفها بجانب إيران، ما عزز العلاقات الثنائية بين البلدين"[6]. هنا يبدأ خط التحالف الاستراتيجي الذي سيشكّل لاحقًا ما يسميه الإيرانيون "محور المقاومة".
ينتقل بعدها إلى "الأزمة السورية" التي اندلعت عام 2011، مقدمًا إياها ضمن سردية "المؤامرة الخارجية"، لا الثورة الشعبية. ويضعها في سياق أوسع من التحوّلات التي شهدتها المنطقة مع ما "يُسمّى الربيع العربي"، حيث سقط زين العابدين بن علي في تونس، وحسني مبارك في مصر، والقذافي في ليبيا، وعلي عبد الله صالح في اليمن.
ما يميز رؤية عبد اللهيان هو تفسيره للأزمة السورية كجزء من "مؤامرة" أكبر، يقودها ما يصفه بـ"المثلث" المتكوّن من الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية. ففي تحليله، توصّل هذا المثلث إلى أن: "أهم العوامل في جبهة المقاومة وجود سورية في الجبهة الخلفية، لذا فإن سقوط النظام فيها يضعف قاعدة المقاومة." هذا التفسير يكشف عن الإطار المفاهيمي الذي تنطلق منه إيران في رؤيتها للصراع، حيث تُرى سوريا كحجر زاوية في "محور المقاومة" ضد ما تعتبره الهيمنة الأمريكية-الإسرائيلية على المنطقة. ثم يستعرض بتفصيل دقيق الجهود الدبلوماسية الإيرانية لحل الأزمة، مشيرًا إلى مبادرات عديدة، منها: "لقد عقدت الجمهورية الإسلامية الحوار السياسي الأول بين ممثلي الحكومة السورية والمعارضين في طهران، حيث حضر قرابة 170 شخصًا في الجلسة من أحزاب المعارضين ومجموعاتهم والمنظمات المدنية"[7]. لكنّه لا يذكر أسماء هؤلاء "المعارضين"، ولا تفاصيل ما جرى في هذا الحوار، ولا نتائجه العملية.
كما نجده يصف بلغة إحصائية جافة نتائج ما يسميه "الحرب الإرهابية المفروضة على سوريا"، قائلًا بأنها تسببت في: "مقتل ما لا يقل عن 400 ألف، وجرح أكثر من 500 ألف، وتهجير سبعة ملايين شخص داخل سوريا وخارجها"[8] ، متجاهلًا تمامًا دور النظام السوري وحلفائه في هذه المأساة الإنسانية.
دبلوماسية اللغة وانتقائية الرواية
يمزج الكتاب بين النمط التوثيقي والسرد الشخصي، بطريقة تجعله أقرب إلىى أدب المذكرات منه إلى التقرير الدبلوماسي الجاف. لكن لغة الكتاب اتسمت بالطابع الدبلوماسي، إذ اختيرت الكلمات بعناية فائقة، وغلبت عليها السمة الرسمية التقريرية، التي تميل إلى التعميم أكثر من التخصيص، وإلى التلميح أكثر من التصريح، وكأن المؤلف كتب تقريرًا دبلوماسيًا لا مذكرات شخصية.
وفي مواضع أخرى، كانت لغة الكتاب واضحة ومباشرة، مع حفاظها على الطابع الدبلوماسي المهذّب حتى في أشد اللحظات توترًا. غير أن هذا الهدوء الظاهري لا يخفي الشحنة العاطفية القوية، خاصة عند الحديث عن الشهداء والتضحيات الإيرانية، حيث استخدم مصطلحات محددة تعكس الخطاب الرسمي الإيراني، مثل: "مدافعي الحرم"، و"محور المقاومة"، و"الجبهة الاستكبارية"، مما يضع النص في سياقه الأيديولوجي الواضح.
اتبع السرد نمطًا زمنيًا متسلسلًا في الإطار العام، لكنه يتخذ أحيانًا طابعًا ارتجاعيًا، إذ يعود أمير عبداللهيان إلى أحداث سابقة ليربطها بالأحداث الجارية ويثريها بتأملاته واستطراداته التحليلية التي تعكس خبرته الدبلوماسية الطويلة. هذا الأسلوب، رغم أنه يخدم الغرض التوثيقي للكتاب، إلا أنه قد يجعل القراءة متقطعة أحيانًا، وكأننا أمام ملفات متفرقة جُمعت معًا، لا أمام نصٍّ سرديٍّ متماسك.
أما على مستوى البناء الدرامي، فيُظهر عبد اللهيان مهارة في خلق التوتر والتشويق، خاصة عند وصف اللحظات الحرجة، مثل اجتماعات الطوارئ أو المفاوضات السرية. فالحوارات مكتوبة بعناية وتبدو أصيلة، وإن كان من الصعب التحقق من دقتها التفصيلية نظرًا لطبيعتها السرية.
اللافت في المذكرات هو الانتقائية الشديدة في عرض الوقائع؛ إذ يختار المؤلف بعناية ما يعزز روايته، ويتجاهل ما يتعارض معها. على سبيل المثال، يتحدث بإسهاب عن "الإرهاب" الذي تمارسه المعارضة، لكنه يتجاهل تمامًا القصف العشوائي للمدن والبلدات من قبل النظام وحلفائه، واستخدام البراميل المتفجرة، والاعتقالات العشوائية، والتعذيب الممنهج في سجون النظام.
ولفهم سبب ظهور المذكرات بهذه اللغة والسردية، تجدر الإشارة إلى أن إعداد هذا العمل لم يكن جهدًا فرديًا. فقد اعتمد أمير عبداللهيان على فريق من المُعِدّين، حيث أجرى معهم أكثر من ثلاث عشرة جلسة مقابلة، تحدث فيها عن ذكرياته وعمله خلال فترة الأزمة السورية. بعد ذلك، فُرِغت هذه المقابلات كتابيًا، ثم سُلّمت إلى الصحفي محمد محسن مصحفي، الذي تولّى تحرير المذكرات وصياغتها بالشكل الذي صدرت به.
بين الوثيقة والتحيّز
كما سبقت الإشارة، تكمن القيمة المعرفية الأساسية لهذه المذكرات في كونها تُقدّم وثيقة مباشرة تعكس الرؤية الإيرانية الرسمية لـ"لأزمة السورية". فأمير عبداللهيان، بحكم منصبه، كان شاهدًا على تطورات الأزمة ومشاركًا في صياغة السياسة الإيرانية تجاهها. وتكشف المذكرات عن الدوافع الحقيقية للدعم الإيراني لسوريا، والتي كانت دوافع استراتيجية بالدرجة الأولى. إذ يقر المؤلف بأن رؤية إيران لسوريا تتجاوز البُعد العقدي، معتبرًا أن لسوريا أهمية استراتيجية كبرى، لأن أجزاء من الأمن القومي والإقليمي الإيراني ترتبط بها[9]. وهذا ما يؤكد أن الدعم الإيراني لم يكن مدفوعًا بالتضامن مع الشعب السوري أو الدفاع عن "الشرعية"، بل بالمصالح الاستراتيجية الإيرانية.
كما يُسلّط الكتاب الضوء على الشبكة المعقّدة من العلاقات الإقليمية والدولية التي تحكم توازنات الشرق الأوسط. فالتفاصيل المتعلقة باللقاءات مع المسؤولين الروس، والجهود التنسيقية مع حزب الله، والمساعي لإقناع حماس بعدم تغيير موقفها من النظام السوري، تكشف جميعها عن تعقيدات الدبلوماسية الإقليمية، وهي جوانب نادرًا ما تظهر بهذا الوضوح في التحليلات الأكاديمية التقليدية.
وتُبرز المذكرات أيضًا معلومات قيّمة عن آليات صنع القرار في السياسة الخارجية الإيرانية، مقدّمةً رؤية من الداخل لعملية إدارة أزمة إقليمية كبرى. ويكشف المؤلف عن تفاصيل حول الخلافات الداخلية في المؤسسة الإيرانية، والتردّد الأولي في التدّخل، والدور المحوري لشخصيات مثل الشهيد قاسم سليماني في تشكيل السياسة النهائية. تعدّ هذه المعلومات ذات أهمية خاصة للباحثين المهتمين بالسياسة الخارجية الإيرانية وكيفية تعامل طهران مع الأزمات الإقليمية.
يوضح الكتاب أن السياسة الخارجية الإيرانية لا تُبنى على الاجتهادات الفردية أو الأمزجة الشخصية، بل تستند إلى قرارات النظام في خطوطه العامة والاستراتيجية. ويشرح المؤلف مسار اتخاذ القرار، والذي يبدأ بمرور الملفات بالمراحل المتخصصة في وزارة الخارجية والأجهزة الأمنية والعسكرية، ثم تُعرض الفكرة على مجموعات الأمانة العامة لمجلس الأمن القومي. بعد ذلك، تُطرح المسألة أمام المجلس الأعلى للأمن القومي لاتخاذ القرار النهائي، والذي يُبلّغ إلى الجهات المعنية بالتنفيذ بعد موافقة الإمام القائد.[10]
أوضح أمير عبد اللهيان، خلال مراسم توقيع الكتاب عام 2020، أن الدافع وراء تأليف المذكرات كان طلبًا مباشرًا من قاسم سليماني، إذ قال: "الشهيد قاسم سليماني طلب منه توثيق جوانب الحضور الملحمي في سوريا والذكريات التي عاشها المدافعون عن المقدسات في هذا البلد، وذلك بهدف بقائها للأجيال القادمة". ويكشف هذا التصريح عن بُعد آخر للمذكرات، يتجاوز التوثيق السياسي نحو تثبيت سردية تُبرز "البطولات" الإيرانية في سوريا، وتقدّمها كنموذج للأجيال القادمة، خاصة تلك المرتبطة بالدعم الإيراني لنظام الأسد في سوريا. كما تتضمّن المذكرات وقفات تقدير لتضحيات "المدافعين عن الحرم" من السوريين والإيرانيين والعراقيين والأفغان واللبنانيين، مشيرة إلى أن إيثارهم أسهم في إفشال "مخططات الأعداء"، وحملت معها الأمن لجميع المنطقة، ولا سيما سوريا والعراق. وعليه، فإن أحد الأهداف المركزية لهذه المذكرات هو إبقاء الذاكرة الجمعية الإيرانية حية، عبر استدعاء هذه "البطولات"، لتظل حاضرة في ذاكرة الأجيال القادمة.
ومع ذلك، من المهم الإشارة إلى أن هذه الذاكرة، كما يراها بعض النقّاد، قد حملت طابعًا طائفيًا. فعلى النقيض من رؤية أمير عبد اللهيان بأن هذا الحضور قد جلب الأمان للمنطقة، يجادل البعض بأن ما حدث قد أسهم في إشعال الحرب الطائفية في سوريا، وهو ما أثبتته الوقائع اللاحقة، حيث لم يتعرض الحرم الزينبي لأي اعتداء بعد سقوط نظام الأسد. ويُطرح تساؤل حول ما إذا كان الدفع بهؤلاء المقاتلين قد جرى تحت تأثير براغماتية ممزوجة بأيديولوجيا طائفية، لتشكل دافعًا للأفراد على التطوع والقتال في سوريا.
أما على الصعيد الإنساني، فيُظهر الكتاب تناقضًا واضحًا وقصورًا في تناول المعاناة الناتجة عن الأزمة. فرغم أن المؤلف يُبدي أحيانًا حساسية تجاه "المأساة السورية" و"معاناة الشعب السوري"، ويتحدث عن الخسائر الإيرانية بألم واضح، إلا أن تركيزه الأساسي ينصب على الجوانب السياسية والاستراتيجية. هذا التركيز يؤدي إلى تقديم صورة محدودة للمعاناة، حيث يُلقي المؤلف باللوم على "الإرهابيين" و"المؤامرة الخارجية"، من دون تحميل النظام السوري أي مسؤولية مباشرة. والأهم من ذلك، هو الغياب الواضح لأصوات الضحايا المدنيين السوريين، أو لأي اعتراف بالأخطاء التي قد تكون إيران قد ارتكبتها. هذا الغياب يُضعف القيمة الإنسانية للنص، ويجعله أحادي المنظور في جانب بالغ الأهمية والحساسية من الأزمة.
وعلى المستوى التاريخي، يسهم الكتاب في توثيق مرحلة حرجة من تاريخ المنطقة من منظور أحد الفاعلين الرئيسيين، ويتيح فهمًا لنظرتهم إلى دول المنطقة، من البحرين إلى مصر وتونس، ومن تركيا إلى اليمن، وذلك من خلال رؤية أمير عبد اللهيان لتطور الأحداث وتقييمه لنجاح أو فشل الاستراتيجيات المختلفة. فهو يقدم مادة مهمة لكتابة التاريخ المستقبلي لعقد ما بعد الربيع العربي.
ومع ذلك، لا يخلو الكتاب من نقاط ضعف جوهرية تُؤثر في موضوعيته وشموليته. أبرزها التحيّز الواضح والافتقار إلى الموضوعية لصالح النظام السوري والسياسة الإيرانية. ويتجلّى هذا التحيّز في اللغة المستخدمة لوصف أطراف الصراع؛ إذ يُطلق على المعارضة مصطلحات مثل "الإرهابيين" و"العملاء"، في حين يُوصَف النظام بـ"الشرعي" و"المقاوم". كما يُلاحظ تجاهل الكتاب إلى حدّ كبير للعوامل الداخلية التي أدّت إلى اندلاع الاحتجاجات في سوريا، مثل القمع السياسي، والفساد، والتفاوت الاقتصادي. وهو ما أشارت إليه فاطمة الصمادي في دراستها "إيران في سوريا"، إذ تقول: "رغم إقرار كثير من الدراسات الإيرانية بتأثير ووجاهة العامل الداخلي كمحرّك أساسي للاحتجاجات، إلا أن سياستها تجاه سوريا جاءت مرسومة بفعل قراءة متوجّسة لتأثيرات العامل الخارجي".[11]
بالإضافة إلى ذلك، يبالغ الكتاب في الاعتماد على نظرية المؤامرة لتفسير الأزمة السورية، إذ يصوّرها كمخطط خارجي تقوده الولايات المتحدة وإسرائيل ودول الخليج لإسقاط "محور المقاومة". كما يُسجل فجوات واضحة في سرد الأحداث، خاصة فيما يتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبها النظام السوري وحلفاؤه، ويتجاهل الكتاب الدور العسكري الإيراني المباشر في سوريا، رغم توثيقه من قبل مصادر متعددة. ويظهر كذلك تناقضًا في المواقف الإيرانية تجاه الثورات العربية؛ فبينما دعمت إيران الثورات في مصر وتونس واليمن والبحرين، عارضت بشدة الثورة في سوريا. هذا التناقض يكشف عن البراغماتية السياسية التي تحكم المواقف الإيرانية، بعيدًا عن الشعارات الأيديولوجية المُعلنة.
ولو كان لنا أن نختار عنوانًا بديلًا لهذا الكتاب، لكان: "كيف أنقذنا سوريا: قصة النجاح الإيراني". فالكتاب، في جوهره، ليس مذكرات بالمعنى التقليدي، بل هو أقرب إلى بيان سياسي وتبرير للدور الإيراني في سوريا، وتأكيد على "حكمة" القيادة الإيرانية في إدارة الأزمة، مما يجعله وثيقة تسعى لتأصيل سردية معينة بقدر ما تسعى لتوثيق الأحداث.
في النهاية، يبقى "صبح الشام" شاهدًا على أن التاريخ يكتبه المنتصرون، أو من يعتقدون أنهم كذلك، لأن المجريات اختلفت بعد ذلك. وأن المذكرات الدبلوماسية، مهما ادّعت الموضوعية، تبقى أسيرة وجهة نظر كاتبها ومصالح دولته. وعلينا نحن القراء أن نتذكّر دائمًا أن الحقيقة، خصوصًا في الملفات المعقدة مثل الملف السوري، ليست حكرًا على طرف واحد، وأن الصورة الكاملة لا تكتمل إلا بالاستماع إلى جميع الأصوات، بما فيها أصوات الضحايا الذين غالبًا ما يُنسَون في خضمّ الصراعات الجيوسياسية الكبرى.