يتناول كتاب "الدولة الواحدة كحقيقة" فكرة أن إسرائيل وفلسطين تشكلان عملياً دولة واحدة بسبب "الأمر الواقع" على الأرض، وهو ما يعكس صعوبة تغيير الوضع السياسي القائم. وتتجلّى هذه الفكرة من خلال تصوير "القضية الفلسطينية" باعتبارها قضية "سكان" فلسطينيين يخضعون بطريقة مباشرة أو غير مباشرة لسلطة إسرائيل، ويفتقرون لحقوق المواطنة التي تمنحها إسرائيل لمواطنيها، الأمر الذي يجعلهم يصفون هذا الحال الذي يرزحون تحته بـ "الفصل العنصري"، ويدفعهم لتبنّي أساليب مثل "المقاطعة" من أجل إنهاء هذا الوضع وتحصيل حقوق متكافئة ومتساوية.
د. كمال ميرزا [1]
الإقرار بحقيقة أنّ إسرائيل وفلسطين، أو إسرائيل/ فلسطين، هي عمليّاً دولة واحدة في ضوء "الأمر الواقع" القائم (status quo) الذي تمليه الحقائق السياسية على الأرض العصيّة على التغيير (immutable political realities)! هذه هي الفكرة الأساسية التي يحاول كتاب "حقيقة الدولة الواحدة"، أو "الدولة الواحدة كحقيقة"[2] إرساءها والتأصيل لها!
ومع إقرارهم بصعوبة تقبّل الغالبية لهذه "الحقيقة"، سواء أولئك الذين يصرّون على التمسك بما يسمّى "حلّ الدولتين" أو سواهم، إلا أنّ محرّري الكتاب الأربعة، مايكل بارنت ونيثن براون ومارك لينش وشبلي تلحمي، يُبدون تفاؤلهم، أو على الأقل لا يعدمون الأمل، بحدوث ذلك.
يستشهد الأكاديميون الأربعة للتدليل على تفاؤلهم الحذر أو أملهم الصعب بإمكانية حدوث التغيير المطلوب أو المُرتَجي بـ "الاتفاقيات الإبراهيمية" التي وُقِّعَت بين الإمارات العربية المتحدة والبحرين وإسرائيل، أو على حدّ تعبير مارك لينش، "إذا كان بالإمكان التخلّي عن وضع قائم بقي مستعصيّا لفترة طويلة [أي العداء والقطيعة بين العرب والإسرائيليين] بهذا الشكل السريع والحازم، فما الذي يمكن أن يتغيّر أيضاً؟"
الاعتراف بحقيقة الدولة الواحدة بحسب الخلاصة التي ينتهي إليها الكتاب يشرع الباب نظرياً أو من حيث المبدأ إلى إرساء "دولة ديمقراطية" تقوم على "المساواة" و"حقوق المواطنة" بما يلبّي الطموحات أو يطلق لها العنان، حتى وإن كانت هذه الصيغة من الناحية المقابلة يمكن أن ترسخ بشكل رسمي وأكثر عمقاً منظومات للتحكم أقرب إلى الفصل العنصري [ما لم يتم توخي الحذر أو العمل على تلافي ذلك].
لقاء في مصعد
تعود فكرة الكتاب إلى لقاء بالصدفة عند المصعد جمع بين بارنت وبراون ولينش في "كلية إليوت للشؤون الدولية" في جامعة جورج واشنطن بالعاصمة الأمريكية. هذا اللقاء أطلق حواراً بين الأكاديميين الثلاثة حول الانفصال الحاصل (disconnect) بين النقاشات الأكاديمية والسياسية إزاء عملية السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين. ما أفضى لاحقاً إلى تنظيم ورشة عمل استضافتها "كلية إليوت" في تشرين أول / أكتوبر 2019، وذلك ضمن مشروع (POMEPS) الذي يقوم عليه مارك لينش حول مشروع "العلوم السياسية للشرق الأوسط"، أو "علم سياسة الشرق الأوسط" إذا جاز التعبير.[3]
وقد ناقش المشاركون في حينه السؤال الأساسي الذي تمحورت حوله ورشة العمل: "ما هي إسرائيل/ فلسطين؟" أي إسرائيل وفلسطين كدولة واحدة أو كيان واحد [أو "إسراطين" كما أطلق عليها مرّة الرئيس الليبي معمّر القذافي، وهي التسمية التي قوبلت في حينه بالتندّر والسخرية]. والفَرَض الأساسي الذي لاقى إجماعًا أو شبه إجماع بين المشاركين في ورشة العمل إدراكهم أنّه لم يعد من المفيد اتخاذ "الدولتين" مُنطلقاً أو مآلاً مُجدياً للتفكير باعتبار أنّ إسرائيل (أي فلسطين 1948) والأراضي الفلسطينية التي احتلت بعد عام 1967 هي حالياً وفعليّاً تحت حكم سلطة واحدة، حتى وإن كان هذا الحكم يتمظهر أو يتمّ تطبيقه على الأرض عبر طرق شديدة التباين من حيث "المناطق" و"المواطنة" و"الهوية".
ولمّا كانت القناعة المتشكلّة لدى المشاركين في الورشة أنّ النقاش حول هذا السؤال لم ينتهِ أو لم يأخذ مداه، فإنّ هذا قد دفع شبلي تلحمي من "جامعة مريلاند" للتفكير بأخذ المبادرة، والذهاب بالسؤال خطوة أخرى للأمام، وذلك من خلال تنظيم مؤتمر تحت مظلة "كرسي أنور السادات للسلام والتنمية" بمشاركة أكاديميين وسياسيين أمريكيين متخصصين في شؤون الشرق الأوسط.
والكتاب الحالي بفصوله الـ (14) هو حصيلة الأوراق النقاشية والمقالات العلمية التي تمخّض عنها هذا المؤتمر الذي عقد في آب / أغسطس 2020 افتراضياً (بسبب تفشّي جائحة كورونا)، مع الأخذ بعين الاعتبار ما يلي: أنّ الهدف من السؤال/ الورشة/ المؤتمر/ الكتاب لم يكن التوصّل إلى إجابات قاطعة أو نهائية بالضرورة بمقدار ما إنّ الهدف هو استشارة تساؤلات والحضّ على التأمل والتفكير. وأنّ المطلوب من الباحثين المشاركين كان تقديم وصف موضوعيّ لإسرائيل وفلسطين كما هما حقيقةً على أرض الواقع، كلُّ حسب مجاله المعرفي وإطاره النظري ونتائجه البحثية. وليس إعطاء توصيات سياسية أو آراء تقويمية حول ما ينبغي القيام به أو ما ينبغي أن يكون عليه الحال.
"الموضوعيّة المتلقّية"
هذه "الموضوعية" التي توصف بـ "العلميّة" كما تتبدّى في النقطة الأخيرة أعلاه، قد تكون هي المأخذ الأساسي الذي يمكن توجيهه لكتاب "حقيقة الدولة الواحدة"، أو وجه القصور الأساسي الذي يعتري الكتاب. نظريّاً، كل فصل من فصول الكتاب هو بمثابة "دراسة علميّة" مستوفية لمتطلبات ما يُسمّى "البحث العلمي". وكلّ فصل أيضا يمكن أن يكون موضوعاً لنقاش إضافي أو منفصل، ولكنّه نقاش تحت المكتوب وليس فوق المكتوب. كما ينسجم كلّ فصل مع "المنظور الوضعي" الذي تقوم عليه العلوم الاجتماعية الحديثة، أي إرساء هذه العلوم على نفس أسس المنهج التجريبي أو "الإمبريقي" الذي تقوم عليه "العلوم الطبيعية"، وهو ما يقتضي التعامل مع الظواهر الاجتماعية كـ "أشياء" على حدّ تعبير "إميل دوركايم"، واعتبار "الظاهرة الاجتماعية" حقيقة نفسها في ضوء حقائقها المحسوسة أو الملموسة على الأرض بعيداً عن أي أفكار مسبقة أو مطلقات متجاوزة.
هذه النظرة للعلم والبحث العلمي، وهي النظرة الرسمية السائدة والمعتمدة معرفيّاً ومدرسيّاً، هي ما يٌطلق عليه الدكتور عبد الوهاب المسيري اسم "الموضوعية السلبية المتلقيّة، والتي تؤول في نهاية المطاف إلى "عملية تسجيل أرشيفية جامدة مملة لا تنتج عنها أي اكتشافات أو تحوّلات".
هذا الفهم للموضوعيّة يقوم على تصوّر للعقلانيّة باعتبارها "ترشيداً في الإطار المادي"، وإلى العقل باعتباره "شريطاً فوتوغرافياً"، وإلى الإدراك كعملية آلية لتجميع وتسجيل ومراكمة الحقائق والمعطيات المادية على هذا الشريط الفوتوغرافي، وهو ما يقود في نهاية المطاف إلى إهمال "علاقة الجزء بالكلّ، والواقعة بالنمط، والظاهر بالباطن".. وفي المحصلة عدم القدرة على تجريد "النموذج الكامن" وراء الظاهرة موضوع الملاحظة أو الدراسة. وفي حالتنا هذه الحديث يجري عن نموذج الاستعمار الصهيوني لفلسطين، وذلك كجزء أو إحدى تمثّلات أو إحدى "اللحظات النماذجية" لظاهرة "الاستعمار الحديث" أو الإمبريالية الغربية الحديثة.
وهذه الموضوعيّة، موضوعيّة "الأمر الواقع"، هي بخلاف ما يتوهّم أصحابها موضوعيّة اختزاليّة تميل إلى "التفسيرات الماديّة أحاديّة السبب"، وتغفل حقيقة أن الواقع الإنساني، وكلّ ما يرتبط به هو واقع "مركّب" ومتعددّ المستويات والجوانب. بل إنّ الواقع المادي نفسه "ليس بسيطاً ولا منبسطاً ولا صلباً ولا صلداً، وإنما مركّب ومليء بالثغرات والنتوءات".
وتتجلّى هذه الاختزالية في الكتاب من خلال تصويره "القضية الفلسطينية" باعتبارها قضية "سكان" فلسطينيين يخضعون بطريقة مباشرة أو غير مباشرة لسلطة إسرائيل، ويفتقرون لحقوق المواطنة التي تمنحها إسرائيل لمواطنيها، الأمر الذي يجعلهم يصفون هذا الحال الذي يرزحون تحته بـ "الفصل العنصري" (Apartheid)، ويدفعهم لتبنّي أساليب مثل "المقاطعة" من أجل إنهاء هذا الوضع وتحصيل حقوق متكافئة ومتساوية.
وفي مقابل التركيز الكبير على ما يسمّى "حركة مقاطعة إسرائيل" (BDS)، ولا يعني هذا أنّ هذه الحملة غير مهمة أو غير مؤثّرة، فإنّ هناك شبه تغييب للحديث عن "المقاومة المسلحة"، على الأقل بما يتناسب مع حجمها وتأثيرها كحقيقة (fact) ضمن الحقائق، وعامل (factor) ضمن العوامل، ومتغيّر (vibrable) ضمن المتغيرات. وكأنّ الكتاب يريد أن يقول أنّ المقاطعة هي الأسلوب المدنيّ المتحضّر الذي يتمتع بالصوابيّة السياسية (politically correct) من أجل تحصيل حقوق مدنيّة، أمّا "المقاومة المسلحة" فهي شيء مدانٌ ضمناً، أو هي "نمط شاذ" على هامش المسار أو السياق "الطبيعي" للظاهرة/ القضية، أو مجرد ردّ فعل "متطرّف" أو "غير عقلاني" على غياب الحقوق المدنيّة.
بل إنّ الكتاب في خلاصته النهائية التي كتبها "مارك لينش" لا يُدرج "المقاومة المسلحة" ضمن "الطرق الكثيرة التي يمكن أن تتغيّر بها الأمور بشكل مفاجئ وغير متوقّع"، فانهيار السلطة الوطنية الفلسطينية احتمال ممكن، واندلاع "انتفاضة" جديدة احتمال ممكن، أمّا "المقاومة المسلحة" فلا ذكر لها بين هذه الاحتمالات. ومجرد اندلاع معركة "طوفان الأقصى" بعد أقل من ثمانية أشهر من تاريخ نشر هذا الكتاب في آذار / مارس 2023 هو مؤشّر على مدى تدنّي "القدرة التفسيرية" للكتاب!
والموضوعيّة المتلقيّة هي أيضاً موضوعيّة غير دقيقة، وذلك بكونها تُغفل أنّ "الدوافع (خيّرة أم شريرة)، وأشكال الوعي (مهما كان زيفها وانفصالها عن الواقع المادي)، والمعنى، أي الدلالة الداخلية التي يراها الإنسان فيما يقع له من أحداث وفيما يحيط به من ظواهر (مهما كانت سطحيه أو عميقه)، تشكّل جزّءاً أساسيّاً من الواقع الإنساني".. وهذا "الشرح البرّاني الموضوعيّ" يؤدي إلى استبعاد "قضايا إنسانية أساسية مثل انشغال الإنسان بمصيره وتجربته في الكون وإحساسه بالاغتراب".
وإلى جانب عدم دقّتها، فإنّ الموضوعيّة المتلقّية هي كذلك "لا إنسانية" على الرغم من الدوافع والنوازع الإنسانية التي يتوسّمها أصحابها في أنفسهم؛ فهذه الموضوعية تختزل الإنسان في حدود الطبيعة والقانون الطبيعي، وتجعله مجرد كائن جسماني "يوجد داخل حيّز التجربة المادية ومحكوم بحدودها"، ويجب عليه "أن يذعن للطبيعة / المادة ولقوانينها" نافيةً عنه أي مركزيّة أو خصوصيّة أو تجاوز.
ولا يقتصر الأمر على "المسيري" ونقده للحداثة الغربية ومناهجها ونظرتها للظواهر الإنسانية، فـ "مدرسة فرانكفورت"، أو ما تعرف بـ "المدرسة النقدية"، هي على سبيل المثال جزء من المركب الحضاري والمعرفي الغربي، ومع هذا فإنّ التجاوز، أو بالأحرى عدم القدرة على التجاوز، هو في صميم اعتراض أتباع هذه المدرسة على الموقف الوضعيّ الغربيّ من العلم؛ فدون تجاوز لا يمكن القيام بالنقد، ودون النقد لا يمكن التوصّل إلى معرفة علمية يُعتدّ بها، بمعنى معرفة لا تكتفي بالوصف والإذعان إلى ما تصفه، بل تتجاوز ذلك نحو التحليل والتفسير، وبالتالي منحنا القدرة على التنبؤ والتحكّم والتغيير. ودون النقد سنبقى حبيسين في عالم "الإنشاء المغلق"، أي الكلام الذي لا يحيل إلا لنفسه وإن بدا وجيهاً وبرّاقاً مثل "السلام" و"التعايش" و"المساواة". ودون النقد سنبقى حبيسين في عالم "الإنسان ذو البعد الواحد"، مُستعمِر صهيونيّ أحادي البُعد، ومُستعمَر فلسطيني أحادي البعد، يُختزلان في حدود احتياجاتهما وضروراتهما الماديّة التي تسمّى تجاوزاً "المواطنة".
والكلام نفسه ينطبق على المدرسة الصراعيّة، الماركسيّة وغير الماركسيّة، من حيث موقفها الرافض للمنظور الوضعيّ، وذلك بكون التفسيرات الصراعيّة هي تفسيرات جدليّة وتاريخيّة، في حين أنّ العقل الموضوعيّ الماديّ هو عقل اختزاليّ سلبيّ غير جدليّ، معادٍ للتاريخ، يكتفي بتعامله الكفؤ والتكنوقراطي مع الأرقام والصيغ البسيطة، يعيش في اللحظة، ساقط في الصيرورة، غير توليديّ، ومستسلم "للأمر الواقع".. تماماً مثلما يطالب محررو الكتاب بالاستسلام إلى حقيقة الدولة الواحدة باعتبارها "أمراً واقعاً".
يقع الكتاب في خطأ أو مغالطة لا تستقيم حتى من منظور "الموضوعيّة المتلقيّة" كما هي أو كما تمارس؛ فإسرائيل كما يوضّح المسيري هي "دولة استيطانية ولها سماتها الخاصة، وظهورها وتطورها وسقوطها يجب أن يُدرَس في إطار التجارب الاستيطانية"، وموضوعيّاً، لا يجوز الربط بين هذه الدولة والدول العربية، أو الربط بين ما يسمّى الشعب الإسرائيلي والشعب الفلسطيني أو بقية الشعوب العربية، ودراستها جميعها في نفس الإطار.
والكتاب أيضاً يُغفل البعد الاقتصادي للصراع، ويتعامل مع الرأسمالية شأنّه شأن غالبية الدراسات والأبحاث الغربية باعتبارها معطىً ثابتاً، أو خلفية سالبة تقع عليها الأحداث تماماً مثل "الزمان" و"المكان" في الفيزياء الكلاسيكية قبل "النسبية"، في تجاهل واضح إلى أنّ التحليل العلمي للنظم السياسية المعاصرة هو في جلّه تحليل - ونقد - لـ "الاقتصاد السياسي" في تقاطعاته الجيو- بوليتيكية والأنثروبولوجية.
باختصار، كتاب "حقيقة الدولة الواحدة" وإن بدا "موضوعيّاً" ومتّسقاً بالمعنى الوضعيّ للموضوعيّة والاتساق، وإن جاء متماهياً مع التعريف الجميل والموحي الذي يحلو للساسة والمثقفين تداوله للسياسة باعتبارها "فن الممكن"، وإن جاء متماهياً مع حقيقة أنّ القانون الدوليّ والشرعيّة الدوليّة المنبثقة عنه هو قانون "أمر واقع"، ويقوم في تسعة أعشاره على "امتلاك الأرض" كما يوضح بيتر تيلور وكولن فلنت في كتابهما "الجغرافيا السياسية لعالمنا المعاصر"، وارتباط ذلك بمفاهيم أساسية مثل "السيادة" و"الدولة" و"القومية" و"الهوية" و"الحدود والتخوم". فإنّ هذا الكتاب يُغفل أنّ الأمر الواقع الذي يطالب أطراف الصراع بالإقرار والتسليم به، خاصة الطرف الفلسطيني، لم يكن في الأساس أمراً واقعاً، ولم يكن على الدوام أمراً واقعاً> بل هو أمر واقع صُنّع بشكل مقصود وموجّه وحثيث. والتغيير المأمول أو الممكن الذي يبشر به محررو الكتاب في حال الإقرار بحقيقة الدولة الواحدة هو ليس تغييراً بمقدار ما إنّه استسلام أو إذعان أو رضوخ لأمر واقع مُصنّع!
"الموضوعية الاجتهادية"
كبديل لـ "الموضوعيّة المتلقيّة السلبيّة" يطرح "المسيري" ما يسميه "الموضوعيّة الاجتهاديّة التفسيريّة"، والتي تسترجع "الفاعل الإنساني بكل تركيبيّته، والعقل الإنساني بكل فاعليّته، مما يعني رفض التلقّي السلبي للواقع الخارجي، وتفعيل الإبداع وزيادته، ونقل العملية البحثية من مادة البحث إلى عقل الباحث".
والفكرة الأساسية التي تقوم عليها "الموضوعيّة الاجتهاديّة التفسيريّة" هي أنّ "الإنسان لا يسلك كردّ فعل للواقع المادي بشكل مباشر (مثير مادي تعقبه استجابة)، وإنّما كردّ فعل للواقع كما يدركه هو بكلّ تركيبيّته، ومن خلال ما يُسقطه على الواقع من أفراح وأتراح، وأشواق ومعانٍ، أو رموز وذكريات، وأطماع وأحقاد، ونوايا خيّرة وشريرة، ومن خلال مجموعة من المنظومات الأخلاقية والرمزية والأيديولوجية". والاجتهاد هنا فيه رفض لـ "الموقف الإمبريالي من الواقع الذي يودّ الإمساك به كلّه ويحاول أن يدفع به في شبكة السببية الصلبة والمطلقة والقانون العام الذي يمكن التحكّم به وتوظيفه".
ومع أنّ الموضوعيّة الاجتهادية التفسيرية تعيد "العلاقة الحلزونيّة" بين الذات والموضوع التي أسقطتها مناهج البحث العلمي الوضعيّة، إلا أنّ هذا لا يعني "إسقاط معتقداتنا ومشاعرنا على الآخرين، لأنّنا لو فعلنا ذلك لأضعفنا القدرة التفسيرية للنماذج التي نقوم بتركيبها".
فعلى سبيل المثال، لو تُرك الأمر لذاتيّة كاتب هذه السطور، ولمعتقداته ومشاعره، لأيّد الفكرة التي ينادي بها كتاب "حقيقة الدولة الواحدة"، ولأثنى على هذا الكتاب واحتفى به، ولما وجّه إليه كلّ هذا النقد، حيث إن كاتب هذه السطور هو أيضاً من مؤيدي حلّ الدولة الواحدة، أو بعبارة أدق، هو يعتبر حلّ الدولة الواحدة في أروقة السياسة، أو ما يحلو للبعض تسميته بـ "الجهاد السياسي"، هو المكافئ الموضوعيّ "للمقاومة المسلحة" على الأرض. ولكن المُنطلق والأساس و"النموذج الإدراكي" في الحالتين مختلف، فحلّ الدولة الواحدة ليس وجيهاً لأنّه "أمر واقع"، ولأنّ التسليم بهذا الأمر الواقع من شأنه أن يمنح الفلسطينيين حقوق مواطنة عادلة ومتساوية.. بل حلّ الدولة الواحدة وجيه لأنّه طريقة سياسية لتغيير الأمر الواقع!
ففي حالة "الدولة الواحدة"، فإنّ الهويّة اليهوديّة أو الإسرائيليّة المُصنّعة هي التي ستذوب وتضمحل لصالح الهويّة الفلسطينيّة العربيّة الإسلاميّة الأصيلة. والخرافات التوراتيّة والتلموديّة المحرّفة التي نُسجت عليها كذبة الشعب اليهودي والقوميّة اليهوديّة هي التي ستذوب وتضمحل لصالح حقائق التاريخ والشعب الفلسطيني كـ "حقيقة تاريخية". وحتى بالمعنى الماديّ المباشر، في حالة الدولة الواحدة فإنّ الديمغرافيا الفلسطينيّة سرعان ما ستبتلع الديمغرافيا الإسرائيليّة أو اليهوديّة، والشخصية الفلسطينية القوية سرعان ما سـ "تفلسط" الشخصيّة الإسرائيليّة الركيكة، تماماً كما أنّ الشخصية المصرية قد "مصّرت" كلّ من حاول احتلالها أو احتوائها أو تغييرها عبر التاريخ.
في المقابل، حلّ الدولتين وليس حلّ الدولة الواحدة هو الذي فيه إقرار بالأمر الواقع، وتسليم به، وتأكيد عليه، وتأبيد له. وذلك باعتبار أنّ حلّ الدولتين في ضوء الوضع الحالي والطرح الحالي يعني ببساطة: أولا: الاعتراف نهائيّاً بالكيان الصهيوني كدولة شرعيّة ذات سيادة تمتلك الحقّ بالوجود. ثانيًا: لا يوجد هناك شيء اسمه فلسطين من النهر إلى البحر، ومن "رأس الناقورة" إلى "أم الرشراش". ثالثًا: تقسيم القدس وتدويل مقدّساتها. رابعًا: لا يوجد هناك شيء اسمه "مقاومة". خامسًا: لا يوجد هناك شيء اسمه "حق العودة". وأخيرًا: لا يوجد هناك شيء اسمه فلسطينيو الداخل أو "عرب الـ 48"، فهؤلاء فلسطينيون، ولقد أصبحت لهم دولتهم الآن، فليذهبوا إليها. وتبقى إسرائيل دولة لليهود فقط.