يستعرض صلاح النصراوي عددًا من المذكرات السياسية التي صدرت خلال العشرين عامًا الماضية، والتي تعكس ظاهرة كتابة التاريخ العراقي من منظور شخصي لعدد من المسؤولين العراقيين السابقين. تشمل المراجعة "أوراق رغد صدام حسين"، التي زعمت أنها جزء من مذكرات والدها المكتوبة في سجنه، وكتاب "مذكّرات مقاتل" لنزار الخزرجي، و"كنت سفيرًا للعراق في واشنطن" لمحمد المشّاط، و"رحلة حياة دبلوماسية" لنزار حمدون، و"أوراق سعدون حمّادي: مذكرات وتأملات". تركز هذه الأعمال غالبًا على تبرير الذات والتهرب من المسؤولية عن الأحداث الكارثية، دون تقديم مراجعات نقدية أو الاعتراف بالمسؤولية التاريخية.
صلاح النصراوي [1]
خلال العشرين عامًا الماضية، منذ الغزو الأمريكي للعراق الذي أطاح بنظام الرئيس الأسبق صدام حسين، أصدر سياسيون عراقيون ما أسموه مذكرات أو سيرًا ذاتية،كشفت عن ميل غريزي لإعادة كتابة تاريخ بلدهم وفق رؤاهم الخاصة، وبعيدة غالبًا عن حقائق وثّقتها وقائع مدوّنة أو لا يزال هناك شهود أحياء عليها.
في نهاية شهر أبريل/ نيسان الماضي، فاجأت رغد صدام حسين الكثيرين عندما نشرت أوراقًا ادّعت أنها جزء من مذكرات والدها، التي كتبها خلال فترة سجنه لدى الجيش الأمريكي بين اعتقاله في ديسمبر/ كانون الأول 2003 وإعدامه بعد ذلك بعامين. وبالرغم من الشكوك التي تحيط بهذه الأوراق، بدءًا من التساؤل عمّا إذا كان صدام هو كاتبها الفعلي، وصولًا إلى الأسباب التي دفعت الجهات الأمريكية للسماح بإخراج المذكرات ووصولها إلى ابنته اللاجئة في الأردن، تبقى هذه الأوراق، التي وعدت رغد باستكمال نشرها كمذكرات، وثيقة مهمة قد لا يتردد الباحثون في الشأن العراقي في نسبتها إلى صدام، باعتبارها تسلط بعض الأضواء على حياته وشخصيته كما عبّر عنها بنفسه لا كما عبرت عنها كتابات أخرى غزيرة ظهرت على مدى العقود الماضية.
في الصفحة الثانية من المذكرات التي نُشرت على منصة (X)، يكتب الرئيس العراقي الأسبق: "ولأن حصول شيء لحياتي، لا سامح الله، في السجن تعني أمام العالم والتاريخ بأنهم مسؤولون عن ذلك، فضلاً عن موقف شعب العراق وأمتنا منهم الآن وفي المستقبل." هكذا يحدد صدام منذ البداية هدفه من كتابة يومياته هذه بوضوح، وهو الهاجس الذي لازمه دائمًا منذ أن أصبح سيد العراق الأوحد بعد الانقلاب البعثي عام 1968، ألا وهو أن يحجز لنفسه مكانًا متميزًا طالما تمناه وروّج له إلى جانب عظماء التاريخ. إذ حتى وهو في سجن المحتلين ينتظر محاكمته عن قضايا تتعلق بجرائم ضد الإنسانية، وانتهاكات لحقوق الإنسان، وتهم أخرى، يحاول صدام أن يلعب لعبته الأخيرة كبطلٍ لا يهتم بذاته أو حياته، بل بالتاريخ الذي يتوهم أنه سيخلده.
ليس لصدام حسين سيرة رسمية، ولكن أجهزة إعلامه أصدرت على مدى سنوات طويلة بعض الكتب التي تعكس الرواية المفضلة لديه، ومنها: "الأيام الطويلة" لعبد الأمير معلة،[2] و"صدام حسين مفكرًا ومناضلاً وإنساناً" لأمير إسكندر،[3] و"صدام حسين الرجل، القضية، والمستقبل" لفؤاد مطر.[4] كانت هذه الكتب قد رافقت بداية صعوده، وكان هدفها ترسيخ صورته كقائد مستقبلي واعد.
كما أن هناك أربعة كتب صدرت بأسماء وهمية في نهاية عهده ونُسبت إليه، حملت في سرديتها وفي طريقة صياغتها شيئًا من سيرته وأفكاره. وفي المقابل، هناك مؤلفات كثيرة تناولت جوانب من حياة صدام. ولعل أبرزها كتاب صدر عن دار الجمل قبيل الغزو الأمريكي عام 2003 تحت عنوان "عالم صدام حسين"، بتوقيع مهدي حيدر، وهو مؤلف مجهول، مما أثار يومها الشبهات حول أهداف إصداره.[5]
حين تُنجز مذكرات صدام وتصدر كاملة، فإنها بالتأكيد ستضيف بُعدًا جديدًا، ليس فقط حول الطريقة التي أدار بها صدام حكم العراق لأكثر من ثلاثين عامًا، وقاده من خلال قمعه ومغامراته وحروبه إلى الوقوع في براثن الاحتلال، وانهيار دولته، وتشظي مجتمعه، بل ستساعد أيضًا في إلقاء الضوء على الجوانب النفسية الخفية في شخصيته، والتي طالما شغلت بال المهتمين بعلم نفس القيادة. وبالتالي، ستسهم في محاولة سبر أغوار الدوافع والأسباب التي وقفت وراء قراراته. فإذا كان التاريخ محكومًا بمنطق عقلي، كما تقول المدرسة الهيغلية، فمن الضروري معرفة مسار بوصلة العقل وكيف تتحكم بقرارات كبرى مثل الحروب.[6]
السيرة كخبرة وذات وموضوع في التاريخ
تُعرَفُ السير الذاتية المنشورة في التقاليد السردية عادةً بوصفها نصوصًا أدبية، حيث تروي قصصًا من حياة أصحابها الذين يكونون عادةً ذوي حيثية أو تجارب مميزة مروا بها خلال حياتهم الطويلة. وبالرغم من أن السير الذاتية تتمحور حول الذات، إلا أنه لا بد لها أن تبقى قريبة من الحقيقة، إذ إنها، في جوهرها، حياة يُعاد تشكيلها من خلال استذكارات واعية لوقائع لا ينبغي أن تنال منها محاولات الإضافة، أو الحذف، أو التشويه المتعمد.
لكن، حتى وإن كانت السير الذاتية تتمحور حول الكاتب أو المكتوب عنه وتهدف إلى توظيف الرواية لأغراض شخصية، أو سياسية، أو أيديولوجية، فإنها تبقى جزءًا من صميم الكتابة التاريخية، مما يُحتِّم عليها ألا تسعى إلى تشويه التاريخ أو تفسيره من خلال رؤى ذاتية، أو اختزال الأحداث في أدوار فردية بمعزل عن السياق العام والأفراد الذين عاصروها. إن منح شخصٍ ما لنفسه الحرية، من خلال ذكرياته، في اللعب بمنطقة العلاقة بين الماضي والحاضر، لا يُسهم في تعميق الوعي التاريخي، ولا يُقدّم صورة موضوعية عن دور النخب في مجتمعاتها. وبالتالي، تُحبَط الجهود الرامية إلى تأسيس علاقة عضوية بين السير الذاتية والدراسات التاريخية بمعناها العلمي الدقيق، بوصفها جزءًا من مدرسة تاريخية شاملة إلى جانب الأدوات البحثية الأخرى.
من المستحيل أن يروي شخص مثل صدام، الذي اعتاد أن يرى العالم من خلال منظار ذاته، شهادة صادقة أو موضوعية عن وقائع تاريخ كان حافلاً بالمآسي الوطنية والإنسانية التي يتحمل مسؤوليته شخصيًا، فيما يخطه من أوراق في سجنه. إذ لم يخطر ببال صدام، وهو يسطر كلماته، سوى أن يكرس تلك الصورة التي اعتاد دائمًا على صنعها لنفسه كبطل تاريخي، دون أدنى شعور بالحاجة إلى المراجعة والنقد الذاتي، أو الاعتذار عن الأخطاء والخطايا التي ارتكبها. ومن البديهي أن يسير أفراد النخبة الذين أحاطوا به سنوات طويلة، وتشبّعوا بثقافة الأنظمة الاستبدادية، على خطاه، وهم يدونون سيرهم بنفس الرّطانة الصدامية التي تلجأ إلى سرد عالم متخيل عن ذواتهم، بعيدًا دائمًا عن رواية القصة المطلوبة.
السيرة كشهادة بلا شهود
منذ سقوط نظام صدام، نشرت العديد من كتب السير الذاتية، لكن أغلبها لا يرقى إلى أن يكون سجلات تاريخية تساعد العراقيين على الوعي بتاريخهم، ولا تسهم في بناء علاقة جدلية بين الماضي والحاضر، ولا تلبي فضول الدارسين المعرفي في تاريخ العراق الحديث. ولعل من أبرز الشخصيات البعثية التي أصدرت مذكراتها الشخصية هو سعدون حمادي، الذي كان عضوًا قياديًا كبيرًا في الحزب الحاكم طوال مسيرته الحزبية والرسمية في العراق، الممتدة لنحو نصف قرن، والتي تولى خلالها مناصب مهمة كرئيس للوزراء، ورئيس للبرلمان. الكتاب الذي أصدره المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات، والذي صدر منه الجزء الأول بـ 440 صفحة تحت عنوان "أوراق سعدون حمّادي: مذكرات وتأملات"، تصدّرته مقدمة للناشر تقول إن ما تقدمه ليس بمذكرات حمادي، بل هي بمعنى ما مذكرات الدولة العراقية.[7] وهو ادعاء سيتهافت عند إكمال قراءة الكتاب، حين سيتضح أن حمادي، حتى وهو في تلك المناصب، لم يكن سوى أداة صغيرة في آلة الحزب والدولة التي قادها صدام دون منازع أو رقيب.
وتأتي "رحلة حياة دبلوماسية" لنزار حمدون، القيادي البعثي والدبلوماسي الذي شغل مناصب بارزة كوكيل وزارة الخارجية وسفير في واشنطن وفي الأمم المتحدة، في نفس سياق السقف المنخفض للوقائع التاريخية.[8] إذ إنها أخفت أكثر مما كشفت عن خبايا في غاية الأهمية كان هو شخصيًا طرفًا رئيسيًا فيها، خاصة تلك التي أدت إلى إعادة العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة الأمريكية عام 1984 بعد قطيعة دامت نحو عقدين، كما رافقت الحرب العراقية الإيرانية والدور الهام الذي لعبته واشنطن فيها، إضافة إلى حضوره الفاعل في الدبلوماسية العراقية في الفترة التي شهدت احتلال الكويت وحرب تحريرها عام 1991، ثم الغزو الأمريكي للعراق عام 2003.
يتناول حمدون بعض المحطات البارزة في مسيرة النظام خلال تلك المرحلة، لكنه يروي معظمها بلسان الشخص الثالث، لا شاهد عيان أو طرف فاعل. كما أنه لا يسعى إلى تقديم قراءات معمّقة لذهنية صدام، إذ تبقى محاولاته في هذا السياق أقرب إلى التأويل منها إلى الرواية التاريخية الدقيقة. وتغيب في مذكراته شهادته عن تلك الأحداث المفصلية التي بدأت بشهر عسل واعد بشراكة إقليمية استراتيجية كان حمدون أحد مهندسيها، وانتهت إلى حربين واحتلال للعراق ووقوع المنطقة برمتها في براثن الفوضى. كان المنتظر منه أن يفتح ما يعتبر لحد الآن صندوقًا أسودًا عن العلاقات بين أمريكا وحزب البعث، والتي تعود إلى عقود أبعد من تلك الفترة، ويساعد في ردم فجوات لا يزال المؤرخون يعانون من الوصول إلى معلومات موثقة بشأنها.
ولأنه اختار الكتابة عن الجانب الدبلوماسي من حياته، فقد تجنب حمدون الدخول إلى عالمه الحزبي الذي قضى جلَّه في صفوف البعث عضوًا وقياديًا، وخاصة مسؤوليته عن فرع سوريا، الذي كان متورطًا فيها ببعض أعمال العنف التي جرت في سوريا كجزء من نشاطات المعارضة ضد نظام حافظ الأسد، التي كان يدعمها صدام. ومثله مثل حمادي، فقد أوصى نزار حمدون، بأن تُنشر مذكراته، التي صدرت عام 2024، بعد مرور عشرين عامًا أو أكثر على وفاته، التي حدثت بعد شهرين من سقوط النظام عام 2003. هذا يثير أسئلة عديدة: أولاً، عن قدرته على الكتابة في وضع سياسي مضطرب وصحي صعب، وثانيًا، عن احتمال أن تكون السيرة قد نالتها أيادي الحذف والتلاعب والإضافة في عملية التحرير والنشر.[9]
هناك بعض الاستثناءات القليلة عند الذين لم يختزلوا سيرتهم بذاتهم فقط، وتناولوا بعض الأحداث التي ساهموا في صنعها أو شهدوها في سياقات نقدية، وقد جاءت هذه الكتابات من بعض أفراد النخبة الذين انشقوا عن نظام صدام قبل سقوطه. ففي كتابه "كنت سفيرًا للعراق في واشنطن: حكايتي مع صدام في غزو الكويت"، يروي محمد المشّاط، وهو قيادي بعثي ووزير سابق وسفير في عدة دول أوروبية قبل انتقاله إلى الولايات المتحدة، بعض جوانب عمله في الدفاع عن مواقف النظام وسياساته دون إيمان أو حتى قناعة حقيقية، مما يضعه، بطبيعة الحال، في حالة من التناقض الأخلاقي والمبدئي.[10]
وفي موضوع لا يزال يشغل اهتمام المؤرخين، وهو الموقف الفعلي لنظام صدام حسين من القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي، يكشف المشّاط عن ازدواجية ذلك الموقف من خلال التوجيهات التي كانت تصله من وزارة الخارجية في بغداد، والتي كانت تتناقض مع الخطاب الرسمي والحزبي الراديكالي المناهض لإسرائيل. يذكر المشّاط أن ما كان يتلقاه من تعليمات من المركز أثناء عمله في واشنطن كان يتمثل في عدم الاهتمام بالموضوع الفلسطيني و"عدم التحرش بإسرائيل أو التعرض لها" بهدف عدم إغضاب الكونغرس. وفي اعتراف نادر من عضو في تنظيم رهن كل أهدافه بتحرير فلسطين، يكتب المشّاط أنه اكتشف أن كل ذلك كان "مجرد ضحك على الذقون ومتاجرة بمأساة الشعب الفلسطيني."
يقدّم الفريق أول الركن نزار الخزرجي، رئيس أركان الجيش العراقي أثناء الحرب العراقية الإيرانية، وهي فترة حرجة من تاريخ العراق الحديث، شهادةً قيمة عن جوانب أخرى من تاريخ تلك المرحلة من خلال سيرته الذاتية التي أطلق عليها "الحرب العراقية- الإيرانية 1980-1988: مذكرات مقاتل."[11] ومن خلال مسيرته في الجيش العراقي، التي تولى خلالها مسؤوليات عديدة، يقدم الخزرجي صورة بانورامية تحتوي في جزئياتها على تفاصيل لعمل هيئات قيادة المؤسسة العسكرية وإدارة الحروب، التي كان يتولى مسؤوليتها العليا صدام، ولكن بعيدًا عن الصورة الزاهية التي يرسمها إعلام النظام للقائد الضرورة كما كان يُسمّى.
في روايته التي تأخذ الحرب العراقية الإيرانية 1980-1988 الجزء الأكبر من الكتاب لأسباب مفهومة، يقدم الخزرجي، الذي فر من العراق عام 1996 قبل أن يستقر لاجئًا في الدنمارك، شهادات عديدة، بعضها مفصل عن سير المعارك التي خاضها باعتباره قائدًا في مراكز متعددة في الجيش. ولعل أبرز ما في روايته لقصة تلك الحرب، التي ولدت بعدها حروبًا أخرى لا يزال العراق يدفع ثمن نتائجها الكارثية، هو أنه لم يكن يعلم شيئًا عن أسبابها ودوافعها، بينما كان عليه أن يخوضها، وتحت قيادته المباشرة، مئات الآلاف من الجنود الذين تم سوقهم إلى آتون حرب لم يعرفوا، مثل قادتهم العسكريين، عنها شيئًا غير أنها سُميت "قادسية صدام المجيدة".
عبر الكتاب، يتناول الخزرجي، إلى جانب استعراض دوره كجنرال وقائد، جوانب التقصير التي أدت إلى إطالة أمد الحرب وعدم تحقيق نصر حاسم فيها. يُلخص ذلك بعدم كفاءة القيادة العليا بكل مستوياتها (الأركان العامة، والفيالق، والفرق العسكرية)، إضافة إلى اتخاذ القرارات العشوائية، وعدم الاستجابة من القيادة العامة، أي صدام، لمقترحات القادة الميدانيين، وكذلك إصدار قرارات متناقضة وفقدان القيادة والسيطرة على الوحدات. كل ذلك وغيره كان، وفقًا للخزرجي، بسبب قيادة صدام بنفسه للحرب والإشراف المباشر عليها، حيث تولدت لديه الثقة بأنه أجدر وأقدر على اتخاذ القرارات المصيرية في جبهات القتال من الجنرالات في هيئة الأركان العامة أو في وزارة الدفاع.
السيرة كمونولوغ ورؤية ملتوية للتاريخ
ورغم أنهما استثنائيان في بعض جوانب النقد غير المباشر انسجامًا مع واقعة انشقاقهما عن النظام، إلا أن كلا من المشّاط والخزرجي يسقطان من ذاكريتهما وقائع مهمة تتعلق بهما شخصيًا وبأدائهما الوظيفي. فالأول لا يعرج، مثلًا، على حملات تبعيث الجامعات العراقية وأدلجة التعليم التي جرت أثناء توليه مهام وزير التعليم العالي ورئاسة جامعة الموصل، في حين يتجاهل الثاني تفاصيل مهمة عن استخدام الأسلحة الكيماوية في الحرب التي جرت في عهده حين كان رئيسًا للأركان، وخاصة موقعة حلبجة الشهيرة في مارس/ آذار 1988، التي راح ضحيتها الآلاف من الأكراد الذين سقطوا بذلك السلاح المحظور دوليًا.
خلال السنوات الأخيرة، صدر في العراق العديد من السير الذاتية التي كتبها مسؤولون في النظام البعثي السابق، لكن أغلبهم تجاهلوا الإشارة إلى وقائع معروفة كانت بمثابة بقع سوداء في تاريخ ذلك النظام وتاريخهم الشخصي. كما تجنبوا إبداء الندم أو التعبير عن الأسف عما اقترفته أيدهم، وتقديم الاعتذار عن ماضيهم، أو حتى القيام بنقد ومراجعات للتجربة المريرة. في كل هذه السير، هناك تعظيم للذات والدفاع عن المواقف السياسية والأيديولوجية، ومحاولة للهروب من المسؤولية والمحاسبة، وإلقاء اللوم على الآخرين، مما أدى إلى انتقادات حادة وُجّهت إلى كتاب تلك السير، واتهامات بالكذب والتزييف والتضليل والتناقض.
لا تسهم تلك السير، التي هي أشبه بالحوار مع الذات (مونولوغ)، في توفير مادة للمؤرخين في عملهم، وفي تقييم أدوار هؤلاء وفق نموذج معياري متفق عليه في دراسات السير، بوصفهم مشاركين في ما حدث، وكذلك في تفسير تاريخ العراق الحديث والأحداث الجسام التي مرَّ بها تحت حكم صدام. إضافة إلى ذلك، فإنها لا تساعد العراقيين أنفسهم على تكوين صورة أفضل عن ماضيهم، وبالذات تلك المرحلة الصعبة التي عاشوها، من أجل تضميد الجراح وإصلاح الخراب الذي تسبَّب به هؤلاء، وللبدء من جديد لاجتراح رؤية لمستقبل بلادهم.