يعرض كتاب أحمد إغبارية "سياسات الأصالة العربية: تحديات فكر ما بعد الاستعمار"[1]، الحالة الفكرية الصعبة التي أعترت مثقفي العرب بعد هزيمة حرب 1967. ويكشف عن أثر هذه الهزيمة التي أنتجت حالة غربلة فكرية حادة أعادت المثقفين العرب إلى الاعتناء بدراسة التراث.
عبد الله سامي أبو لوز [2]
تُركز أبحاث أحمد إغبارية، الأستاذ المساعد في جامعة تكساس في أوستن، على دراسة التاريخ المعاصر لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الفترة التي تلت تفكك الإمبراطورية العثمانية. يهتم إغبارية بشكل خاص بدراسة كيفية ظهور مؤسسات وأنظمة اجتماعية وثقافية جديدة في المنطقة.
يتتبع في هذا الكتاب، الصادر في عام 2022، قصة صعود منطقة المغرب على حساب المشرق باعتبارها مركزًا للفكر العربي المعاصر، وما صاحبه من نشوء حربٍ ثقافية حول مركزية التراث للذات العربية من أجل النهوض واللحاق بركب التقدم والحداثة. يقوم إغبارية باستعراض وتحليل مشروعي المعسكرين الفكريين المتضادين الذي دارت بينهما الحرب الثقافية: مشروع نقد العقل العربي للأستاذ المغربي محمد عابد الجابري، وناقد نقد العقل العربي للمفكر السوري جورج طرابيشي. يسعى بذلك إلى فهم السياقات السياسية والاجتماعية التي شكلت الوسط الذي دارت وتطورت من خلاله هذه الحرب الفكرية بين مثقفي العرب والنشطاء السياسيين في تلك الحقبة الزمنية.
تكمن ميزة هذا الكتاب في محاولته لدراسة العقل العربي المعاصر من ناحية تفاعله مع تراثه، بمعنى العودة إلى واحدة من المحاولات المعاصرة الأولى للتفاعل مع التراث. تعتبر هذه المحاولات أرشيفا للعقل العربي المعاصر، بما يكشف عن حيثيات وكيفيات تفاعله مع هزائمه وأزماته الوجودية. إن مسألة التراث وإعادة الاتصال مع المعرفة المكتوبة باللغة العربية مثلت للمفكرين الذين عاصروا فشل مشروع الدولة العربية كودًا أخلاقيًا ومعرفيًا للذات العربية يسمح لهم بإعادة بناء المجتمع على مُثل وأخلاقيات مستمدة بشكل مباشر من إرثهم التاريخي والثقافي.
المناخ الفكري قبل حرب النكسة
شهد المناخ الفكري في الفترة ما بين 1945-1970،[3] حالة من الإيمان بمشروع الدولة العربية البازغة التي حصلت للتو على استقلالها من براثن الاستعمار. وأحاطت هذه الحالة هالة من الاحترام لمنجزات الدولة العربية ما بعد الاستعمارية، نظرًا لما حققته على مستوى الأمان الصحي والبنية التحتية العمرانية والبيروقراطية. لقد شاعت في هذه الفترة البينية حالة من الأمل بإمكانية تفكيك الاستعمار عالميًا بما يفضي لإعادة تنظيم العالم على نحوٍ أكثر عدالة، وانتشر ذلك على يد رواد عصر النهضة العربية، من أمثال: طه حسين وعباس العقاد وتوفيق الحكيم وبطرس البستاني. صاحبت هذه الفترة أيضًا حالة فكرية نافرة وعدائية لكل تقليد، فاعتبرت التراث سلطة معرفية تعيق الشعوب العربية من اللحاق بركب المثال الأوروبي.
كان رواد هذه الحقبة الزمنية، من ينعتهم الكاتب بالنقاد الاجتماعيين "social critics"، من أمثال: سمير أمين وجورج طرابيشي، أكثر شراسة من أسلافهم من رواد النهضة العربية، الذين تأثروا بالحداثة الأوروبية، لكنهم لم يكونوا شديدي الشراسة في مهاجمة التراث، ولم يروا أن التغيير والتقدم الاجتماعي يجب أن يصاحبه نبذ الماضي/ التقليدي/ التراثي. بل أن النقاد الاجتماعيين لاموا أسلافهم على عدم جذريتهم في نبذهم للتقليد والتراث.
لم تصمد هذه المنجزات، ولا حالة الأمل والإيمان بمشروع الدولة ما بعد الاستعمارية، في وجه إعصار السبعينات الذي وضع العرب أمام حالة من الذهول إثر هزيمة عام 1967. فكيف لدولة صغيرة ناشئة لا يزيد عدد سكانها عن مليون شخص أن تهزم ترسانة الجيوش العربية بعدتها وعتادها اللذين يبلغان أضعاف ما تملكه هذه الدولة المعتدية. وراحت أقلام المفكرين العرب تنغل في تشريح حالة الفشل العربي وأفول بريق مشروع الدولة ما بعد الاستعمارية. لقد شعر المفكرون العرب بحالة من الغربة عن الطبقات الحاكمة، فقد ظهر فسادهم وسلطويتهم للعيان، وعرف مفكرو تلك الحقبة بأن هؤلاء ليسوا ببعيدين عن استبداد وإجرام وفساد المستعمر، مما أفقدهم الحماسة لمشاريع تفكيك الاستعمار التي راجت سابقًا في الفترة البينية. ويصف إغبارية هذه اللحظة، لحظة أفول مشروع الدولة العربية ما بعد الاستعمارية، بأنها لحظة مركزية مؤسسة ساهمت في صناعة ما يسميه "عصر السعي نحو الأصالة"، وصعود ما يسميه معسكر النقاد المتصلين "connected critics".
لحظة التحول
شهدت أواخر حقبة الستينات حالة يقظة تفشت شيئًا فشيئًا بين المثقفين ونقلت التراث من خانة اللامفكر فيه إلى نقطة المركز من الفكر العربي المعاصر. ينقل إغبارية عن زكي نجيب محمود مقولة دالة من مقدمة كتابه المعروف بـ"تجديد الفكر العربي عن حالة مثقفي تلك الحقبة الفكرية: "لم تكن قد أتيحت لكاتب هذه الصفحات .. فرصة .. تمكنه من مطالعة صحائف تراثنا العربي على مهل، فهو واحد من ألوف المثقفين العرب، الذين فتحت عيونهم على فكر أوروبي .. حتى سبقت إلى خواطرهم ظنون بأن ذلك هو الفكر الإنساني الذي لا فكر سواه. استيقظ صاحبنا -كاتب هذه الصفحات- بعد أن فات أوانه أو أوشك .. فطفق .. يزدرد تراث آبائه .. [علّه] يكتمل له شيء من الزاد قبل الرحيل." ينتمي جورج طرابيشي إلى هذه الأجواء الفكرية، ويعتبر إغبارية أن الفضاء الفكري العربي منذ بداية عصر النهضة العربية لم يحو كاتبًا عربيًا تشكلت ذهنيته وفقًا للفكر الأوروبي كما تحقق في طرابيشي. بل يرى البعض أن طرابيشي لم يكن مجرد قارئ ومعلق على الفكر الفلسفي الأوروبي بل منافحًا عربيًا صنديدًا عن الإبستمولوجيا الغربية.[4]
انكب طرابيشي على دراسة التراث العربي طوال عقد الثمانينات، رغم ولاءه المطلق للفكر الغربي على نحوٍ غير متوقع. وتوقف تمامًا في نهاية العقد عن عمله في ترجمة الفكر الغربي الذي وضعه على خريطة الفكر العربي بتقديمه بعض أهم النصوص الفكرية الغربية للقارئ العربي. إن باعث هذه الانعطافة الحادة في توجهات الطرابيشي الفكرية كان الرغبة بالتركيز التام على قراءة التراث العربي. هذه الانعطافة عكست روح العصر الفكرية، التي تمثلت في شيوع دراسة التراث لدى العديد من الماركسيين والقوميين العرب، الذين لطالما نادوا بوجوب التخلي عن كل ما يربطنا بالماضي باعتباره مضادًا للإبداع. ولم يكن توجه الطرابيشي وأقرانه، من أمثال: أدونيس وحسين مروة وغالي شكري والطيب تيزيني وغيرهم، حبًا في التراث بل من أجل ما اعتبره الطرابيشي تصحيحًا للنكوص عن مسار النهضة العربية الأول. فقد كان السؤال الحاكم لدى النقاد الاجتماعيين ليس كيف نتصل بماضينا وتراثنا العربي، بل كيف نمحي ونقلل أثر تقاليد الماضي؟ نادى الطرابيشي بالقطيعة المعرفية مع الماضي، ولم يع هو والعديد من أقرانه خصوصية القطيعة الغربية التي اختارها الأوروبي مع ماضيه المعرفي.
إن حالة التحول الاجتماعي العربي نحو الإسلام، أو ما يعرف لدى الدارسين بالصحوة الإسلامية، حفزت مثقفي العرب الحداثيين لينكبوا على دراسة التراث من أجل إنقاذه من سلطة الإسلاميين وتوظيفه لصالح أجندتهم الأيديولوجية. ترافقت هذه الحالة مع عدة تطورات أرشيفية واجتماعية وسياسية ومؤسساتية جعلت سؤال التراث ملحًا، وأجبرت مثقفي العلمانية/القومية على الاشتباك معه إذا أرادوا تحقيق أي تقدمٍ اجتماعي. على رأس هذه التطورات: 1) الفتح الأرشيفي على يد أحد أبرز أساتذة الفلسفة العرب عبد الرحمن بدوي، الذي أخرج إلى النور مجموعة كبيرة من أهم النصوص العربية التي لم تكن معروفة للمثقفين والدارسين العرب، والتي لم تكن لتقوم بدونها قائمة لحقل دراسة التراث العربي. 2) الثورة المؤسساتية بانتشار دور النشر والطباعة المهتمة بأسئلة القومية والوحدة والأصالة، ويعد مركز دراسات الوحدة العربية أحد أهم هذه المؤسسات قاطبة. 3) الحرب اللبنانية الأهلية التي ساهمت بإنهاء وتفكيك الساحة الجامعة الأصخب للعديد من المثقفين العرب والأكاديميين والمترجمين والكتّاب.
الحرب الثقافية
صاحبت الحرب الأهلية اللبنانية العديد من الاضطرابات والقلاقل السياسية في الوطن العربي، فقد أفل نجم عبد الناصر، وصعد محرر الإسلاميين السادات إلى سدة الحكم، واعتلى الأسد كرسي الرئاسة، واستطاع القذافي التغلب على خصومه. وساعدت هذه الأسماء في إرساء أنظمة وسياسات جديدة لتثبيت حكمها وسلطتها. ترافق ذلك مع ضياع قلعة النقاد الاجتماعيين بيروت، ما أفقدهم رأس مالهم الثقافي الذي عكفوا على بنائه سنين طويلة. أفسحت هذه الاضطرابات الأفق أمام جيلٍ جديد من الباحثين الصاعدين من الأطراف المهمشة في الوطن العربي، وساعد مركز دراسات الوحدة العربية الباحثين المغاربة على اعتلاء هرم الثقافة العربية. لقد أرست دور النشر المشرقية الرائدة في تلك الحقبة الزمنية مثل دار الطليعة والأدب العرب قواعدًا غير رسمية تشترط معرفة في اللغات الأجنبية وخبرة في المعارف والنظريات الغربية للدخول إلى الدوائر الثقافية المغلقة. وجاء مركز دراسات الوحدة ليفكك هذا الاحتكار عبر مؤتمراته ومنشوراته التي ساعدت على دمقرطة الواقع الثقافي العربي.
عمل الجيل الجديد الذي يسميهم إغبارية "بالنقاد المتصلين" على نقد وتحطيم التصورات التي نافح عنها النقاد الاجتماعيون، الذين يمثلون المشرق المنهزم أمام القوى الاستعمارية وفقًا لتصورات الجابري. سعى الجيل الصاعد إلى تحرير الذات العربية من التصورات القومية والأيديولوجيا التي فرضها النقاد الاجتماعيون من أبراجهم العاجية على الشعوب العربية. وتجاهلوا التفريق الذي خُطّ بين العلماني والديني، متجاوزين بذلك البرادايم الذي فرضه خصومهم على الفضاء الثقافي العربي. آمن الجيل الصاعد وعلى رأسهم الجابري، وغيره من أمثال طه عبدالرحمن وحسن حنفي، بأهمية التراث، واعتبروا إعادة الاتصال به مرتكزًا رئيسيًا للتغير الاجتماعي واللحاق بركب الأمم المتقدمة. إن الماضي في نظرهم يحمل في طياته العديد من الممكنات غير المكتشفة التي ستساعد الشعوب العربية على تحريك المياه الراكدة.
على عكس المتوقع يرى إغبارية أن "النقاد المتصلون" لا الإسلاميون هم من أعادوا التراث ليكون موضوعًا بحثيًا مركزيًا في الفضاء الثقافي العربي. بل أن الجابري في المجلد الثاني من "نقد العقل" تحدث بصراحة عن حتمية الاستعانة بالتراث، وأن طريقنا نحو الحداثة والتجديد لا بد من أن يمر عبر التراث وآلياته وممكناته. لقد استبدل "النقاد المتصلون" المعجم الاصطلاحي للنقاد الاجتماعيين بشكلٍ تدريجي حتى غدا الفريقين يتحدثان لغتين مختلفتين. اُستغنيَ عن مصطلحات من قبيل: الطليعة والثورة والتنمية والتحليل الطبقي، لصالح مصطلحاتٍ أخرى مثل: الأصالة والحداثة البديلة والهويات الأصيلة. لقد شدد الجابري وأقرانه على وجوب الاتصال بالناس والثقافة المحلية والنهل من المخزون الثقافي والذاكرة الجمعية المشتركة للإنسان العربي التي يمثل التراث أحد أهم مصادرها.
تحول جورج طرابيشي من نزعة الثورية إلى الدفاع عن مساعي النهضة العربية، ونافح بشدة من خلال التصدي بشراسة لمشروع الجابري الذي نادى بإعادة الاتصال بالتراث. وصرف خمسة وعشرين عامًا من عمره في نقد هذا المشروع وأتباعه. لم يتخل الطرابيشي عن موقعه بل واصل نقده لاستعادة التراث معتبرًا السبيل الوحيد لإقامة عقلانية عربية يكون بالتخلي عن أثقال الماضي وتقاليده التي تمثلها العودة للتراث.
خاتمة وتعليقات
لا يتفرد إغبارية في محاولة فهم النشاط الفكري العربي في القرن الماضي، بل يوجد العديد ممن حاول التأريخ والتحليل لتلك الفترة المليئة بالأحداث السياسية التي ألقت بظلالها على الواقع الاجتماعي وأنتجت منعطفات ثقافية مفصلية. يحضرني من هذه الأعمال كتاب ستيفان لاكروا الذي عالج الشق الآخر من الحالة الفكرية العربية المتمثل بحالة الصحوة الإسلامية التي غزت العالم العربي، وشهدت أوجها في ثمانينات وتسعينات القرن المنصرم، في كتابه "زمن الصحوة: سياسات المعارضة الدينية المعاصرة في السعودية"[5]. أيضًا كتاب أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث لفهمي جدعان، وكتاب العرب والحداثة دراسة في مقالات الحداثيين لعبد الإله بلقزيز، وكتاب إليزابيث سوزان كساب "الفكر العربي المعاصر دراسة في النقد الثقافي المقارن"، يمكن ضمهم لهذا الكتاب لتشكيل صورة بانورامية عن القرن المنصرم وتطورات الفكر العربي المعاصر واشتباكاته مع التراث باعتباره سؤالاً حضاريًا مُلحًا.
لا شك في أن دراسة هذه المحاولات تحمل أهمية كبيرة تساعدنا في فهمنا لذواتنا كسكان للجنوب العالمي، وبوصفنا أصحاب حضارة لا زالت قادرة على منح البشرية عالمًا أكثر إنسانية وقابلية للعيش، كما يعتقد كثيرٌ منا. من المهم جدًا لنا كجيل صاعد من الباحثين والمهتمين بالشأن المعرفي والثقافي أن نقوم بمراجعة أعمال المعاصرين للتراث بنقدها والاستفادة منها والبناء عليها لا أن نجدد حالة القطيعة المعرفية التي مارسها مثقفو ومفكرو العرب الأوائل بسبب انبهارهم بالنماذج الاستعمارية المعرفية الغربية. ولا يخفى على مطلع أن حالة العرب خصوصًا، والمسلمين عمومًا، في وضعها الحالي، لا زالت تراوح موضعًا مشابهًا من الانهزام والانبهار بالنموذج الحضاري الغربي. وما مشاريع التغيير الثقافي في المملكة العربية السعودية التي أطلقتها رؤية 2030 عنا ببعيد.[6] بيد أننا نعايش لحظة راهنة مفصلية تمثل مرحلة نموذجية للانعتاق، حيث يظهر فيها النموذج الغربي في أبهى تمثلاته الوحشية في تراصه لمواجهة المقاومة الفلسطينية في غزة.