تقدم إليزابيث تومبسون في كتابها "كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب"، تحليلاً تاريخيًا لتجربة المملكة العربية السورية الأولى (1918-1920) كنموذج فريد لتأسيس دولة ديمقراطية في المنطقة العربية. كما يركّز على الصراع بين النخب العربية والقوى الدولية (خاصة بريطانيا وفرنسا) حول تطبيق مبدأ تقرير المصير بعد الحرب العالمية الأولى. تبين الكاتبة كيف أُجهِضت تجربة المملكة العربية السورية التي تعد أول دولة عربية مستقلة في العصر الحديث من خلال التلاعب بمفاهيم مثل "حق تقرير المصير" و"الانتداب" من قبل القوى الغربية الاستعمارية.
محمد مصطفى العبسي[1]
يمثل كتاب "كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب: المؤتمر السوري في عام 1920 وتدمير التحالف التاريخي الليبرالي -الإسلامي فيه"[2] ثمرة عمل شاقٌّ وشيّق، من البحث والتدقيق في وثائق أجنبية وعربية مبعثرة وموزّعة في عواصم متعددة، عربية وغربية. تشمل هذه الوثائق معاهدات معلنة وسريّة، وسير ذاتية، ومذكّرات، ودوريات صحفية وفكرية، ورسائل عائلية. ما أنتج أطروحة سرديّة تسلّط الضّوء على تجربة الاستقلال السورية الأولى، والتي دامت حوالي 22 شهرًا، ما بين تشرين الأول/ أكتوبر 1918 مع دخول قوات الأمير فيصل والحلفاء (البريطانيين) مدينة دمشق، وانتهت بدخول القوات الفرنسية دمشق عنوة في آب/أغسطس من عام 1920، بُعيد معركة ميسلون الشهيرة، وقُبيل المقولة الأشهر منها "ها قد عدنا يا صلاح الدين".[3]
أهمية الكتاب: السياق التاريخي الرّاهن للعرب
في حوار لها مع مجلة جدلية، تقول تومبسون إنّها شرعت بكتابة النّص "تزامنا مع وقوع المجزرة التي تعرّض لها الإخوان المسلمون في القاهرة في صيف عام 2013 (مجزرة رابعة)". إذ رأت أن هذا الحدث قضى على "التحالف الثوري الجامع في مصر، والذي ضم علمانيين وإسلاميين، مسلمين وأقباط". بالإضافة إلى ذلك، تزامن كتابة النص مع ما كانت تشهده سوريا من "انقسام أطياف المعارضة السورية وتدحرج الانتفاضة هناك باتجاه الحرب الأهلية".
بالفعل، فإنّ الغوص في أحداث الكتاب، التي تعود إلى قرن من الزّمن، يبدو وكأنّه محاكاة لمسائل ما زالت إشكالية في التجربة العربية الرّاهنة، لا سيما تلك التي طفت وتكاد تغمر التركة اليتيمة والوصيّة الضائعة للربيع العربي. إذ إن الكتاب، وبقدر ما يكيل المديح للنضج التأسيسي والدستوري لتجربة المملكة العربية السورية، فهو يسعى أيضًا إلى البحث عن الأسباب التاريخية والموضوعية لاستعصاءات اليوم، والتي يُرجعها بشكل أساسي إلى طبيعة النظام الدولي المستحدث آنذاك. قضى الأخير، كما يخلُص الكتاب، على الشرعية الوطنية والدستورية لدولة سوريا الكبرى (سوريا، لبنان، الأردن وفلسطين)، وعلى إيمان الشعوب والتيارات السياسية المحلية بعلاقة العدالة بالقانون.
يتناول الكتاب شخصيات ينتصر بعضُها (ممثلو اللوبي الاستعماري في فرنسا وبريطانيا) ويُهزَمُ البعض الآخر (المجلس التأسيسي السّوري والشعب الذي يمثّله). كما يوضح مفاهيمَ عميقة ومعيارية كالشّرعية والمساواة والديمقراطية، والتي يخرج جميعها مهزومًا على المستويين الوطني والدولي. فبالإضافة لما يعرفه المواطن العربي عن الآثار المشؤومة لكل من معاهدة سايكس بيكو (1916)[4] ووعد بلفور (1917)[5] على مستوى العلاقة السياسية للعرب بالغرب في الحقبة الحديثة والمعاصرة، تبحث تومبسون بشكل أكثر إسهابًا عن الأذى الداخلي والوطني الذي ولّدته القوى العظمى "الحليفة" لدى وأدِها بالاستعلاء والتآمر والاحتلال "المملكة العربية السّورية". هي الدولة التي جسّدت، كما تقول تومبسون، أول ثورة استقلال دستورية وأول تجربة ديمقراطية في المنطقة، ببعديها الشعبي والتأسيسي.
سيناريو الكتاب
يُستَهلُّ الكتاب بشرح وجيز لظروف ما يُعرف بـ"الثورة العربية الكبرى" والتي مثّلت عربيًا تحالف شريف مكة، الحسين بن علي، الخارج على الدولة العثمانية، مع أعضاء من جمعية العربية الفتاة السرّية الناشطة في سوريا الكبرى والممتدة عبر المنفيين والهاربين إلى مصر والعواصم الأوروبية. آنذاك شكّل الأمير فيصل، ابن شريف مكّة، صلة الوصل بين والده حاكم الحجاز وشبكات الحركة التحررية العربية. كان هذا التحالف العربي بدوره جزءاً مما يُعرف بقوى الحلفاء، التي تصدرتها بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وإيطاليا من حيث النفوذ والقوة العسكرية.
فيما يتعلق بجبهة سوريا، سعى الحلفاء، خاصة بريطانيا، إلى استمالة الداخل العثماني العربي، وذلك بإطلاق دعوة "جهاد مضاد"[6] تفنّد محاولة العثمانيين الاستئثار بمسألة الجهاد، وتخفف تأثير البعد الديني للخلافة على مسلمي الهند وباقي المستعمرات البريطانية. مثّل العرب، على رأسهم شريف مكّة ورمزيّة موقعه، المضاد الإسلامي ذاك في وجه السلطة العثمانية.
بالنسبة للوطنيين السوريين المتحالفين مع شريف مكّة، تعود نشاطاتهم السياسيّة إلى فترة الثورة الدستورية التي أقرّتها السلطة العثمانية عام 1908، والتي فتحت الباب أمام التمثيل البرلماني وإقامة الأحزاب القومية، مع الأمل بنوع من الحكم الذاتي اللاإنفصالي للشعوب والقوميات غير التركية. انقلب القوميون، "الأتراك الجدد"، في عام 1912 على الثورة الدستورية تلك، واستعيدت سياسات المركزية والتتريك والتخوين. واختُتِمَ بعدها الحكم العثماني في سوريا بدخول الحرب، ثم بحكم عسكري مستبد من قبل جمال باشا، المعروف سوريّاً بالسّفاح، وصولاً إلى انسحاب القوات العثمانية من دمشق في سبتمبر 1918.
أما بالنسبة لشريف مكّة، فقد كان هدفه من دخول الحرب هو الحصول على مُلْك دولة عربية تمتد من الحجاز إلى الأناضول، شاملة العراق وسوريا الطبيعية. وقد حصل حسين بالفعل على وعد بريطاني عام 1915 بضم الأراضي العربية بعد الحرب، أي بعد دحر العثمانيين، مع تحفّظ البريطانيين في مراسلات لاحقة على مصير الساحل السوري وجنوب العراق. ولم يعلم الأمير فيصل، مبعوث وممثل والده لدى السوريين والحلفاء، بحسب الكتاب، عن غموض الوعد البريطاني فيما يخصّ الساحل السوري.[7] أما الشريف حسين، فلم يكن يعلم هو الآخر بنيّة ابنه بالمطالبة، في مؤتمر السلام الذي تلا الحرب، بفصل مسألة سوريا عن سلطة الحجاز.[8]
طرأ هذا التغير في توجّه فيصل نحو الاستقلال عن أبيه نزولاً عند نصائح مقرّبيه ومستشاريه من جمعية العربية الفتاة، بالإضافة إلى المنفيّين في مصر وأوروبا من ذوي النشاط السياسي والفكري بهدف "إنشاء دولة دستورية في سوريا الكبرى تحمي الأقليّات"[9]. فقد تكشّفت سريعًا لفيصل استحالة إقناع الأعيان والأقليّات والقوى العظمى على السّواء بإمكانية حكم المجتمع السّوري المعقّد اجتماعيًا وطائفيّاً انطلاقا من دولة أبيه في الحجاز. على العكس، فقد تمكّن فيصل ومقرّبوه من جمع نخب محلية من قدامى الموظفين والضبّاط العثمانيين حول مشروع الاستقلال. تبعتهم في ذلك شخصيات شعبية سورية وممثلون من جبل لبنان وفلسطين من كل الطوائف والتيارات السياسية. من أبرز هؤلاء الشيخ الإصلاحي ذائع الصيت محمد رشيد رضا، اللاجئ لمصر منذ 1897 والمحكوم غيابيًا بالإعدام لدى الدولة العثمانية في عام 1915. أسّس رضا بُعيد الحرب حزب الاتحاد السوري في مصر إلى جانب المصرفي المعروف ميشيل لطف الله والطبيب والنّاشط السّوري عبد الرحمن الشهبندر. من مصر أيضًا، انضمّ السوري فارس نمر رئيس تحرير مجلة المقطّم واسعة الانتشار. كما برز في الكتاب اسم المفكّر والكاتب عزة دروزة كأبرز الشخصيات الممثلة لفلسطين.
أدت هذه الشخصيات بالإضافة إلى أسماء بارزة أخرى كهاشم الأتاسي ورياض الصلح أدواراً استثنائية في فرض برنامج تأسيسي ديمقراطي على فيصل والحلفاء. تجدر الإشارة أيضاً إلى أنّ الكتاب أفرد فصلاً كاملاً (الفصل 13) لنضال الناشطة النسويّة الدمشقية نازك العبد ومطالبتها بتضمين الدستور المزمع كتابته لحق المرأة بالتصويت.[10]
ما هي الديمقراطية من وجهة نظر الكتاب؟
يقترب تصوّر تومبسون للديمقراطية من أدبيات الفلسفة السياسية والفلسفة الدستورية، إذ ترفض هذه النظريات اختصار تعريف الديمقراطية بالبعد الإجرائي (ضمان انتخابات حرّة تعددية) والبعد العملي الذي يليه (السّلطة الدورية للأغلبية الانتخابية). ديمقراطية الفلسفة السياسية هي نظام قانوني يحتوي في داخله النظام السياسي. بعبارة أخرى، لكي تكون الحياة السياسية شرعية وقانونية، يتوجّب أن تدور داخل إطار المساواة الدستورية بحيث لا تمثل عملية الانتخابات فيما بعد هيمنةً لمجموعة اجتماعية أو سياسية على أخرى.
بالرغم من أن تومبسون لا تخوض في هذه التفاصيل النظرية، إلّا أن مقاربتها للتجربة السورية في تقرير المصير تشير إلى تبنّيها للتعريف الفلسفي الدستوري لمفهوم الديمقراطية. ففي حين نادت شعوب بولونيا والتشيك والمجر بحق تقرير المصير، أي الاستقلال، بناء على الشرعية القومية المتجانسة،[11] كان على المؤتمر السوري ولجنة صياغة الدستور دفع شرعيات متناقضة وبعيدة عن التجانس نحو إطار قانوني واحد. إذ ضم ممثّلين عن مختلف المكونات الاجتماعية والسياسية، مثل المحافظين والقوميين، المسلمين والمسيحيين، المتدينين والعلمانيين. على سبيل المثال، عارضت الكنيسة المارونية في جبل لبنان مشروع سوريا الكبرى بناء على شرعية حق المسيحيين في تقرير المصير،[12] في حين تمكّن المؤتمر السّوري العام ذو الشرعيات المتناقضة من صياغة دستور حديث جامع، منتخب ديمقراطيًا وممثل لكل القوميات والطوائف بمن فيهم أعضاء يهود وموارنة ومسيحيون.
بعد أكثر من ألف عام من الحكم الإسلامي، شكّلت شريفية فيصل ومكانته الرمزية الدينية حلّا مثالياً لمسألة دين الدولة في سوريا الكبرى، ولكن بشرط حدّ صلاحياته بتسميته كملك دستوري.[13] أرضى هذا الحل المتخوفين من النخبة الدينية المسلمة من فكرة اندثار الأمة الإسلامية، ومن الدّخول في تاريخ جديد، علماني ومجهول. كما أرضى قلقَ الأقليّات من قضية التمييز الدستوري، وذلك بتحديد الدور السياسي للملك والإشارة إلى مساواة وحقوق الأقليّات في نصّ الدستور.
المعركة الخاسرة؟ الأخلاق والمثاليات في السياسة الدولية
يعتمد الكتاب في موضوعه "كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب" على منطلقات قد تكون محسومة الصّواب من الناحية الأخلاقية والنظرية، كالعدالة والمساواة بين الشعوب. إلا أنها أكثر تعقيدًا فيما يتعلّق بالتطبيق العملي أو بالتعاطي الواقعي ضمن معادلات موازين القوى.
فمع انتهاء الحرب وانتصار الحلفاء، كان الجميع يستعدّ للمعركة الدبلوماسية القادمة حول تنظيم عالم ما بعد الحرب والمعاهدات الدولية والدول الجديدة التي ستنبثق عنه. علّقت شعوب وقوميات الإمبراطوريات المنهارة (الروسية والنمساوية والعثمانية) آمالها على مبدأ تقرير المصير الذي نادى به الرئيس الأمريكي ولسون في خطاب شهير له ألقاه في الولايات المتحدة أوائل عام 1918، وقد لاقى هذا الخطاب منذئذ دويّا عالميا.
إلّا أن غموض معنى "حق تقرير المصير" الذي نادى به ولسون والعرب يجعل منه مفهومًا فضفاضاً وحمّال أوجه وهو ما لم يشر إليه الكتاب. السؤال هنا، ما هي طبيعة الشرعية التأسيسية التي يستند إليها حق تقرير المصير؟ هل هي قومية كما طالب البولونيون، أم طائفية كما طالبت الكنيسة المارونية في لبنان، أم دينية كما سيطالب فيما بعد مسلمو الهند في بنغلادش وباكستان؟ لهذا السّبب، كما ذكرنا أعلاه، أصابت تومبسون في تصويرها للتجربة التأسيسية السورية على أنّها نموذجية و"ديمقراطية"، إذ إن المؤتمر السوري العام لم يستند إلى المنطق الأغلبي، بل إلى المنطق الوطني الجامع. بكلّ الأحوال وحتّى بعيداً عن المثال السوري، يستحيل ادّعاء مجتمع ما بنقائه القومي أو الهوّياتي. ولا يوجد مجتمع خالٍ مما ينطبق عليه مُسمّى الأقليات. بالتالي، يقود تشييد حق تقرير المصير على مفهوم ضيق للهويّة إلى متاهة الشرعيات المستحيلة التوفيق، أو إلى تبرير شرعية تقرير المصير للأطراف المستثناة.
من جهة أخرى، من ناحية الترجمة التقنية والإخراج القانوني لمفهوم تقرير المصير، يستوعب الأخير أشكالاً متعددّة ومختلفة من التحرّر، كالحكم الذاتي أو الفدرالية أو حتى الكونفدرالية. أيّ أنّه ليس محصورًا بالاستقلال. في الكتاب، يبدو فيصل وكأنّه يتلاعب بهذا المفهوم المستحدث بانتظار الحصول على مُلْكٍ ما في مكانٍ ما. ففي حين أنّه لم يخبر والده عن نيّته بحكم سوريا بشكل مستقل عن الحجاز، فقد أخبر السوريين أوّلا بحصوله على وعدٍ من الحلفاء بالاستقلال التّام، وأخبر الحلفاء ثانياً بقبوله بالانتداب، أيّ باستقلال منقوص السّيادة، شرط أن يكون أمريكياً أو بريطانياً. بالإضافة إلى ذلك، وقع في باريس مع ممثّلي الحركة الصّهيونية على ميثاق يرسم شكلاً من الفدرالية السورية تتمتّع في داخلها فلسطين بالحكم الذّاتي لكن بشرط حصول سوريا الكبرى على استقلالها.[14]
إلّا أنّ الكلمة الفصل فيما يتعلّق بالتلاعب بهذه المفاهيم الجديدة كانت للفرنسيين والبريطانيين. إذ تُرجم الوجود العسكري الفرنسي والبريطاني في سوريا الكبرى، وهي قوّات احتلال، باختلاق مفهوم جديد ومبهم هو الانتداب. رسميًا، مثّل الانتداب نظام وصاية للقوى العظمى بهدف "إرشاد الشعوب التي لم تكن مستعدة بعد لحكم نفسها لنفسها".[15] وتجدر الإشارة إلى أنّ ولسون نفسه قَبِل المفهوم المبهم للانتداب كترجمة قانونية لمبادئه المثالية؛ مساواة الشعوب وحقها بتقرير المصير.[16]
تُحجم الكاتبة عن انتقاد فيصل، وغالباً ما تبرر له. كما أنّها تُظهر إيمانًا بمبادئ ولسون، على الرّغم من استحالة تطبيقها أمام تحدٍّ تأسيسي واقعي. وهو ما قد يعني، لأول وهلة، أن سرديّتها رومانسية، مثالية أو لاواقعية. إلا أنّه يتوجب على مراجعتنا التذكير بمقدمة الكتاب حيث تتوجه تومبسون أساسًا للقارئ الغربي، وهو غالباً قارئ رقيق سياسيّاً بحكم بعده عن الحروب والنّزاعات وتمتّعه بمواطنة مدنيّة يحميها القانون. يتلقّن هذا القارئ في كثير من الأحيان، بحسب تومبسون، تبريراتٍ سياسية وإعلاميّة غربية لتدخلاتٍ وحروب ظالمة. ويجري ذلك عبر استخدام دعاياتٍ أخلاقية ومثالية كالسّعي النّبيل لحكومته لنشر الحريّة والديمقراطية. لهذا السّبب، تحاجج تومبسون لدى سردها للأحداث بمنطق أخلاقي مثاليّ.
المظلومية العربية وتراث ازدواجية المعايير
لا تخفى أهمية بحث كهذا للقارئ العربي. فهو يتناول الحقبة التي انطلقت منها سرديّة القومية العربية، وهي سردية تلقّفتها الدكتاتوريات العربية وأنظمة الحزب الواحد حتى يومنا هذا بهدف تعزيز خطاب المظلومية السياسية وتنويم القوى الاجتماعية والفكرية في المشهد الداخلي. تُظهِرُ تومبسون بشكل جليّ في كتابها قدرة النخب الدينية والسياسية والاجتماعية العربية على تكييف المفاهيم السياسية والمؤسساتية بشكل حيوي ومن القاعدة، أي بتمثيل الشعب وترجمة إرادته إلى زخم سياسي. السّؤال هنا: هل مشاكل العرب اليوم تكمن فقط في المعايير المزدوجة للقوى الغربية، وفي سطوتها وتدخّلاتها؟ أم أنّها تكمن أيضاً في الغياب المقصود والممنهج للحيوية الفكرية والنقدية في المؤسسات المعرفية والجامعية العربية؟ قد يكون منطق المظلومية تجاه الغرب مصيبًا ولكن، هل تستطيع المظلومية وحدها بناء منهج جديّ للمعرفة؟
في الكتاب، تبدو حالُ أعضاء المؤتمر السوري العام، في أثناء مداولاتهم بخصوص التأسيس وكتابة الدستور، كحال نُسّاك أو رهبان في خلوة وطنية، جاهلين بمحيطهم ومعزولين عن العالم الخارجي. الجميع ساعدهم على اختبار تجربة العزلة تلك: تستّر فيصل على حقيقة ما يُحاك لهم في مؤتمرات ومعاهدات السلام في باريس، ومنعت السلطات البريطانية والفرنسية العديد منهم من السّفر والالتحاق بالمفاوضات، واحتكرت التمثيليات الغربية لخدمات البرق والبريد، ممّا مكنها من منع الوطنيين السوريين من التواصل والتنسيق فيما بينهم. فهل تشكّل تجربة العزلة الغير المقصودة تلك نموذجًا للتيارات السياسية العربية في فنّ الانتقال الديمقراطي بعيداً عن التدخل الخارجي؟
أما عن العرب وتراث ازدواجية المعايير، فقد لا تكون هذه النقطة محورية في الكتاب، إلا أن تومبسون تشير إليها في أكثر من موضع. إذ قامت حجة الوفد العربي برئاسة فيصل على المطالبة بتطبيق المساواة الدولية، ونددت الصّحف العربية بالسياسات الهرمية العنصرية التي جعلت العرب في مكانة أدنى من مكانة نظيراتها الاستعمارية. إلّا أنّ هذه النّخب ذاتها قَبِلت إقصاء الشعوب الأفريقية من معادلة المساواة تلك حين أظهر الغرب للعرب آمالاً زائفة بإمكانية مساواته لهم بنفسه. في النهاية، لم يحصل فيصل على أفضل من وضعية الانتداب من نوع "A"، أي الانتداب الاستشاري والحكم غير المباشر، في حين تم استبقاء الأفارقة تحت بند الشعوب المتخلفة والمحتاجة للحكم المباشر من قبل الاستعمار. العبرة أنّ ذلك قد جرى بتواطؤ فيصل ومن يمثّله من العرب، بغض النظر عن تحقيق مطالبهم من عدمه.