يقدّم كتاب "رجل الله في العراق" للباحث سجاد جياد قراءة لدور المرجع الشيعي علي السيستاني في رسم ملامح العراق بعد الغزو الأميركي عام 2003. يتتبع الكتاب، الصادر عن "مؤسسة القرن" مسيرة السيستاني من بداياته في الحوزة إلى تصدره المرجعية، مسلطًا الضوء على تعقيدات المشهد الشيعي في العراق.
صلاح النصراوي[1]
دأب إعلام الدولة الشمولية في العراق، التي أسقطها الغزو الأميركي عام 2003، على إطلاق تسمية "باني العراق الحديث" على رأس النظام آنذاك، صدام حسين، الذي تمرّست الدعاية الرسمية في تمجيده بوصفه وريثًا للملك البابلي، نبوخذنصّر، الذي بلغت شهرته الآفاق، كواحدٍ من بناة الإمبراطوريات الكبرى في التاريخ.
ولم يكن الغزو والاحتلال الأمريكي وحده كفيلًا بتقويض ذلك التبجّح، بل سيُدمِّر أيضًا العراق، دولةً ومجتمعًا، وهو الكيان الذي قاده السنّة العرب منذ إعلان تأسيسه الحديث عقب انهيار الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى. وسيفتح ذلك المجال لظهور كيان مختلف، يتصدّره الشيعة العرب، الذين سيُصرّون على وصفه بـ"العراق الجديد"، في إشارة إلى نهاية عهد الهيمنة السنّية، وتأكيدًا على شعار الدولة المتعدّدة الأديان والطوائف والإثنيات القومية، التي تمنّاها كثيرون.
وإذا كان ثمة فضلٌ يُنسب لرجلٍ مكَّن شيعة العراق من الوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها حتى اليوم، فلا بد أن يكون المرجع الشيعي الأعلى، آية الله علي السيستاني. فقد استطاع، من خلال دوره القيادي الروحي، أن يُرغم سلطة الاحتلال الأميركي على تغيير المسارات التي رسمتها لإدارة العراق المحتل، والخضوع لرؤيته بضرورة الإسراع في نقل الحكم إلى العراقيين، عبر انتخابات عامة ودستور يضعونه بأنفسهم، يؤسس لنظام تمثيلي تعددي.
يأتي كتاب "رجل الله في العراق: حياة وقيادة آية الله علي السيستاني"،[2] للباحث سجاد جياد، الصادر نهاية عام 2023 بطبعتيه العربية والإنكليزية عن "مؤسسة القرن" الأميركية، ليضع النقاط على حروف عديدة في سيرة الزعيم الروحي الأكبر لشيعة العراق، والدور التاريخي البارز الذي لعبه بعد الغزو الأميركي، ولا سيّما في تمكين الشيعة من الوصول إلى السلطة التي طالما تطلعوا إليها، باعتبارهم الأغلبية السكانية في البلاد.
ينسج جياد، وهو باحث متخصص في السياسات العامة والحوكمة والشؤون الدينية في العراق، حكاية هذا الزعيم الديني عبر أربعة فصول. يقدّم في أولها إيجازًا تاريخيًا وفقهيًا عن "السلطة الدينية في المذهب الشيعي"، ثم يستعرض في الفصل الثاني "السيستاني: الرجل والمرجع"، ويخصص الفصل الثالث لـ"الأيديولوجيا السياسية في النجف"، في حين يُفرد الفصل الرابع للحديث عن "إرث السيستاني"، الذي سيظل حاضرًا بالتأكيد، ليس في تاريخ العراق المعاصر فحسب، بل في حاضره أيضًا، ولربما لسنوات وعقود قادمة.
الطريق إلى النجف
لا تبدو بداية رحلة حياة السيستاني، المولود في مدينة مشهد الإيرانية عام 1930، ومسعاه ليصبح رجل دين مثيرة للانتباه، إذ كان مثل الآلاف من الشيعة الإيرانيين الذين قطعوا المسافات الشاسعة من مدنهم وقراهم متجهين إلى مدينة النجف الأشرف في العراق طلبًا للعلم في الحوزة الدينية، في المدينة المقدسة التي تحتضن ضريح علي بن أبي طالب، الذي قامت عقيدة المذهب الشيعي في الإسلام على ولايته وإمامته وأولاده (نسله) من بعده، وعلى خلافتهم الروحية والسياسية للنبي محمد.
في النجف، التي وصل إليها عام 1951، خاض السيستاني ما يصفه جياد بـ"الطريق الطويل" نحو التأهل أولًا لدرجة الاجتهاد في الفقه، ثم بلوغ مكانة المرجعية (الفقيه الجامع للشرائط)، قبل أن يصبح المرجع الأعلى لشيعة العراق في ظروف سياسية واجتماعية حرجة وبالغة التعقيد، أعقبت أكبر انتفاضة شعبية مسلحة خاضها شيعة العراق عام 1991 ضد النظام الذي قادته رموز السنة منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921.
وبإيجاز لا يُخلّ بالسيرة، يُلقي جياد الضوء على ظروف تولّي السيستاني مكانة الزعيم الروحي للشيعة العراقيين (ولكثيرين غيرهم حول العالم)، ليكرّس اهتمامه لاحقًا للدور المحوري الذي شاءت أقداره وأقدار العراق أن يلعبه بعد الاحتلال الأميركي. لكنه، قبل ذلك، يسعى إلى أن يضع في تصور القارئ غير المطلع صورة واضحة عمّا تمثّله مؤسسة المرجعية الشيعية في سياقاتها التاريخية والدينية والاجتماعية، تمهيدًا للانتقال إلى المرحلة التالية للغزو، والتي سيتولى خلالها السيستاني دورًا رياديًا في "تأسيس العراق الجديد".
المرجعية ومآلات الاحتلال
الكثير مما يسرده جياد في الفصل الثاني معروف في سياق الأحداث التي جرت خلال السنوات التي تلت الغزو، لكن الأهم هو وضع كل ذلك في إطار تحليلي يبرز الدور الذي مارسه السيستاني منذ اليوم الأول للغزو، في ترسيخ قواعد تحول دون تمكُّن الاحتلال والقوى السياسية التي جاء بها من فرض السيناريوهات التي أعدتها مسبقًا لحكم العراق، منذ أن بدأ الاستعداد الفعلي للغزو مطلع عام 2002.
ما سيكتشفه القارئ هو أن رجلًا مسنًّا منعزلًا، يقبع في دار متواضعة وسط حيٍّ شعبي متهالك في النجف الأشرف، ويصرف جلّ وقته في الدراسة والبحث والإجابة على استفسارات مريديه الدينية، سيتمكن من فرض كلمته على أكبر قوة عظمى أرسلت مئات الآلاف من جنودها لاحتلال العراق، ويمنعها من إدارة البلد وفق مشيئتها، ثم يعيد رسم مسار المرحلة بحسب رؤيته.
ما نعلمه من الوقائع التي سبقت الغزو الأميركي هو غموض خطط وتوجهات إدارة الرئيس جورج بوش بشأن "اليوم التالي"، وهو ما اتضح جليًا في الفشل الذريع بتحقيق الأمن والاستقرار بعد الاجتياح، وفي أسلوب الإدارة المدنية التي انكشف لاحقًا أنها كانت تخطط لاحتلال طويل الأمد، دون أفق واضح للانسحاب أو لنقل السلطة. هنا يبرز دور السيستاني، الذي يفصّله الكتاب من خلال مواقفه، ابتداءً من رفضه صيغة "مجلس الحكم" الذي يعينه المحتلون، وإصراره على تسليم السلطة للعراقيين الذين سيكون عليهم كتابة دستور، وانتخاب مجلس نيابي، وتعيين حكومة تمثل جميع أطياف الشعب العراقي. وكان نجاح السيستاني في إرغام الأميركيين على السير وفق خطة الطريق التي وضعها، قد أشار إلى قناعته بأن "العراق الجديد" يجب أن يُقام على أسس الديمقراطية والتعددية والحق في التمثيل وتقرير المصير.
خاض جياد بعد ذلك في مهمة دقيقة لتفسير تلك المعادلة الشائكة التي لا تزال تُحيِّر كثيرين من المراقبين، وهي كيفية نجاح السيستاني، من جهة، في تمكين الشيعة من السلطة في "العراق الجديد"، ومن جهة أخرى، خوضه صراعات خفية ومكشوفة مع الجماعات الشيعية السياسية التي تصدّت لمهام الحكم، بسبب عجزها وفشلها في إنجاز المهمة التي حدّدها لها، وهي بناء دولة مواطنة لجميع العراقيين. يستقصي الكتاب الحالات التي قرّر فيها السيستاني التدخل مباشرة لإنقاذ مشروع التمكين الشيعي من الانهيار والتصدع، أو في محاولات تعديل المسارات التي انحرفت فيها الجماعات الشيعية عن الأهداف المرسومة، بفعل تدنّي مستويات الحكم، وسوء الإدارة، وتفشي الفساد؛ وهي أعراض لأمراض مزمنة مثل الطمع في السلطة، والمحاصصة الطائفية، والمحاولات المستميتة لفرض نموذج حكم لا يتناسب مع واقع العراق التعددي ومتطلبات العراقيين بكل أديانهم وطوائفهم وقومياتهم، وهي أمور كان السيستاني قد شخّصها وصاغ اجتهاداته بشأنها.
تأتي أهمية الكتاب أيضًا من حقيقة أن كاتبه، سجاد جياد، باحث وأكاديمي متمرس مما أهله لتقديم صورة شاملة للسيستاني، من منظورَيْن: واقع الميدان الشيعي المعقّد ودور المرجعية فيه، وأصول مناهج علم الاجتماع، خصوصًا عند ماكس فيبر وبيير بورديو. يستعين جياد بالأول بفكرة "السلطة الكاريزمية"، ويستعير من الثاني مفهوم "رأس المال الرمزي" ليقرّب للقارئ النموذج الذي جعل من السيستاني، على حدّ تعبير الأكاديمي الأميركي خوان كول في المقدمة التي وضعها للكتاب، "رجل المواقف الكبرى"، والذي كان دوره محوريًّا في "تشكيل عراق ما بعد البعث".
غير أن هناك جانبًا آخر في مسعى السيستاني لا يغفله جياد، وهو خيبة أمل "رجل الله في العراق" في إتمام الرسالة الإلهية التي نذر لها مرجعيته، وهي بناء العراق المنشود. إذ سيجد الرجل نفسه أمام مقاومة شرسة أبدتها الطبقة السياسية الشيعية الحاكمة تجاه الاسترشاد بدعواته إلى الإصلاح، والنزاهة، والحكم الرشيد. ستُخلّف هذه المفارقة شعورًا بالإحباط وخيبة الأمل لدى السيستاني، وتدعوه في نهاية المطاف إلى الانسحاب والعزلة التكتيكية، لكنها ستكشف أيضًا عن جوانب ضعف في منهجيته، وفي الأساليب التي اتّبعها، والأدوات التي امتلكها لتنفيذ رؤيته. وهنا يُصيب جياد حين يشير إلى ما قد يكون مبالغة في "تقدير قوة السيستاني في السياسة العراقية" وقدرته على تغيير سلوك الجماعات الشيعية "الجشعة"، ما يعكس، حسب رأي مراقبين لا يسمّيهم جياد، "محدودية" سلطة السيستاني ونفوذه السياسي الذي بدأ يتراجع بعد أن مكّن هذه الجماعات من الوصول إلى السلطة.
أما الأمر الثاني، فهو فقدان السيستاني استراتيجية قوية وواضحة تراعي طبيعة النظام السياسي العراقي بعد سقوط نظام صدام، وقوة وصلابة نخبته الحاكمة. وسيتطلّب هذا الاستنتاج بشأن أسلوب "القيادة والسياسة" من جياد أن يعرّج على منهجية السيستاني السياسية، ونموذجه في السلطة، وفكرته عن الدولة في سياق النظرة الشيعية التاريخية إلى الإمامة، والتباين بشأنها بين الفقهاء وفي السياقات التاريخية المختلفة. ما يمكن استنتاجه من ملاحظات جياد أن "الإيديولوجيا السياسية العامة لدى السيستاني غير واضحة"، بحكم طبيعة المدرسة الفقهية النجفية التي "تؤمن بالنهج العملي وتحدّد أولوياتها تبعًا للسياق"، مقارنةً بمدرسة ولاية الفقيه الإيرانية التي ترتكن إلى "نظرية السلطة الإلهية لتحقيق غايات سياسية".
المسألة الشيعية و"العراق الجديد"
وفي ملاحظة ذات مغزى، يجزم جياد بفهم السيستاني العميق للتاريخ، وهو استنتاج يمكن إدراكه من مضامين وروح مشروعه لتمكين الشيعة من السلطة. غير أن الكتاب كان بحاجة إلى أن يضع تجربة السيستاني ونتائجها في السياق التاريخي الأشمل لما يمكن تسميته بـ"المسألة الشيعية في العراق". إذ، ومنذ بداية تأسيس الدولة الحديثة، ظلّت "المظلومية" أو الشعور بالتهميش والنبذ والاضطهاد في ظل الحكومات المتعاقبة، هي العقدة المستحكمة في علاقة الأغلبية الشيعية بالدولة التي كانت تحت قبضة الأقلية السنية. وقد تولّد هذا الشعور عن قناعة ترسّخت لدى قطاعات واسعة من القيادات والجماهير الشيعية بأنّ الأغلبية الشيعية أُقصيت بشكل متعمّد من قِبل المحتلّين البريطانيين عن قيادة الدولة الحديثة، انتقامًا من مقاومتهم للاحتلال، وهو ما أصبح الهاجس الذي تحكّم في نهج الجماعات الشيعية بعد الغزو الأميركي، خشية أن تتكرّر التجربة المريرة على يد الأميركيين مجددًا.
ومن المؤكّد أن السيستاني كان على دراية تامة بهذه السردية التاريخية، وما تنتجه من مشاعر وذكريات مريرة لدى الشيعة العراقيين، كما أنّها لعبت دورًا مهمًّا في بلورة فلسفته في التغيير. إلا أنّ من الواضح أن السيستاني كان يهدف إلى عدم الربط بين مشروعه وتلك العقدة النفسية والتاريخية، كما سعى إلى إقناع الشيعة بأنّ بناء "العراق الجديد"، الذي سيلعبون فيه دور الأغلبية في البرلمان وفي الحكومة، لا ينبغي أن يقوم على الهيمنة والإقصاء، وكأنّ هدف التغيير هو مجرّد تبادل في الأدوار بين أسياد الحاضر والماضي.
وإذا ما أضفنا إلى ذلك التزام السيستاني الواضح بنظريته الفقهية عن الولاية، التي ترفض القبول بوجود سلطة مستمدة من تفويض إلهي، فإنّه كان على وعي تام بالتاريخ الأشمل، وبالواقع الذي أنتجه، ولا سيّما تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية في ظلّ ولاية الفقيه، محاولًا تذكير الشيعة بضرورة تفادي تكرار أخطاء الماضي وتجنّب التجارب الفاشلة. لم تكن المسألة الجوهرية بالنسبة له هي استلام الشيعة العراقيين للسلطة، بل ما الذي سيفعلونه بها بعد ذلك، خاصّةً وأنّ المؤشرات كانت تدل منذ وقت مبكر على ضعف وعجز القيادات الشيعية، وانغماسها في لعبة السلطة والفساد ونهب الدولة.
وعلى الرغم من أن الكتاب يستعرض نظريات الحكم عند الشيعة، وخاصة نظرية ولاية الفقيه وتنوعاتها الفقهية المختلفة، إلا أنه لا يضع التجربة العراقية في نطاق بنيوي أوسع لأوضاع الشيعة في المنطقة. فقد كان الشيعة العرب، على وجه الخصوص، قد بدأوا ينظرون إلى التجربة العراقية باعتبارها صحوةً وإحياءً، وأيضًا قوةً مثالية يُقتدى بها، وتوسّموا أن يؤدي نجاحها إلى تحسين أوضاعهم كأقليات عانت من التهميش والإقصاء. وقد بدت رؤية السيستاني، من دون أن يُفصح عنها أو يدوّنها، منسجمة إلى حد كبير مع الآراء التي عبّر عنها الزعيم الشيعي اللبناني محمد مهدي شمس الدين (1936–2001)، والتي تدعو إلى اندماج الشيعة العرب في مجتمعاتهم تحت مظلة الدولة الوطنية. وكان جوهر فكرة شمس الدين أن الموقف السياسي الشيعي يجب أن يقوم على أساس المشاركة، وعلى قاعدة التنوّع ووحدة المجتمع السياسي في كيان وطني، ومن خلال التمسك بالهوية الوطنية بدلاً من التقوقع خلف الهويات الصغرى.
وإذ لا يزال العراق يمر بمرحلة انتقالية صعبة من حالة عدم الاستقرار، فإنّ الأضواء تتركّز على الدور الذي ستلعبه المرجعية الشيعية في حال وفاة السيستاني، البالغ من العمر 95 عامًا. ولا شك أن جياد على حق حين يختتم كتابه بالتعبير عن القلق الذي يساور كثيرين في العراق وخارجه، من صعوبة تصوّر أن يمارس أحد المراجع الشيعية الأخرى الدور ذاته الذي يمارسه السيستاني عند وفاته. هناك أسماء وسيناريوهات عديدة مطروحة بشأن خلافة السيستاني، ولكن لا أحد، ولا شيء، مؤكّد حولها حتى الآن. وما هو مؤكّد أن العراق، بتجاهل الطبقة السياسية الشيعية المتنفذة دعوات السيستاني للحكم الرشيد والجامع لأطياف الشعب، قد خسر فرصة كبيرة لإعادة بنائه من جديد، ووضعه على طريق السلم والاستقرار والنهضة من ركام الحروب والأزمات التي عصفت به ولا تزال.