يُوثّق كتاب "فلسطين – أربعة آلاف عام في التاريخ"، للمؤرخ والأكاديمي البريطاني-الفلسطيني نور الدين مصالحة، تاريخ فلسطين العريق بدقة تدحض الادعاءات الإسرائيلية المستمرة، وتقدم أدلة تثبت حقيقة سكان البلاد الأصليين.
دينا عزت[1]
كانت غزة، المدينة التي يعود تاريخها لأكثر من أربعة آلاف عام، تشهد في القرن السادس مهرجانًا سنويًا للورود احتفالاً بقدوم الربيع إلى المدينة الواقعة على ساحل المتوسط والتي كانت تصدر الأطعمة والفواكه المتميزة إلى أوروبا، بحسب كتاب "فلسطين – أربعة آلاف عام في التاريخ"، للمؤرخ والأكاديمي البريطاني-الفلسطيني نور الدين مصالحة.
بالطبع، تبدو هذه الحكاية اليوم وكأنها تصوير طوبائي لمدينة منكوبة تشهد حصارًا وقصفًا مستمرين من قبل الإسرائيليين، نتج عنه أكثر من سبعة آلاف شهيد، معظمهم من النساء والأطفال والمسنين.
رواية مصالحة التاريخية عن غزة هي جزء من رواية تفصيلية خطها المؤرخ الفلسطيني الجذور في كتابه الذي صدر باللغة الإنجليزية عام 2018 في أقل من 500 صفحة. جرى ترجمته إلى العربية ليكون وثيقة متكاملة حول الكينونة الفلسطينية المستقرة جغرافيًا وثقافيًا لأكثر من أربعة آلاف عام، والتي يسعى الاحتلال الإسرائيلي لمحوها بشكل تدريجي وممنهج من سنوات سبقت نكبة عام 1948 عبر تفريغ المدن والقرى الفلسطينية من سكانها، وفرض أسماء عبرية على مدن كانت قائمة لقرون ولها أسماء عربية، وبالتالي إحلال رواية عبرية مختلقة لفلسطين بوصفها أرض إسرائيل.
لم يحظَ الكتاب حين صدوره باهتمام كاف، ربما بسبب تزامن نشره مع انتشار وباء كوفيد-19. لكن وقبل أسبوعين فقط، ومع مشاهد القصف الإسرائيلي المروع والمتواصل على قطاع غزة، المحاصر والمفقر أصلاً، حصد الكتاب، الذي يعد جزءًا من مشروع متكامل لمصالحة، اهتمامًا واسعًا مجدداً.
يمكن اعتبار إبراز مفهوم الهوية الفلسطينية وترسيخه من بين النقاط الأساسية التي سعى مصالحة لتثبيتها والتأكيد عليها بكثير من الدقة والتفصيل على مدار عشرة فصول متتالية، كاشفًا عن هوية متعايشة مع ديانات ومعتقدات مختلفة في كل قرى ومدن فلسطين على مدى أربعة آلاف عام. وهو ما يتعارض تمامًا مع حقيقة الهوية الإسرائيلية غير المنتمية لهذه البلاد والمستعمرة لها منذ أكثر من 70 عامًا. كما يكشف الكتاب قيام إسرائيل بطرد وإزاحة السكان الأصليين من القرى والمدن الفلسطينية، وتدمير مئات منها تدميرًا كاملاً لبناء مستوطنات غير شرعية بأسماء عبرية تحل على الخرائط الجديدة محل مدن فلسطينية قديمة تمتد جذورها في التاريخ.
يسرد الكاتب في بحثه التاريخي المفصل، الذي يحمل بصمة أكاديمية لا يمكن إخفاؤها، تاريخ فلسطين منذ نشأتها قبل 4 آلاف عام، وصولاً إلى القرن العشرين وسقوط الدولة العثمانية، التي كانت فلسطين جزءًا من أراضي إمبراطوريتها، ووقوعها تحت الانتداب البريطاني، وما تبعه من تحقيق وعد بلفور، وإعلان قيام الكيان الإسرائيلي.
يفتش مصالحة في الوثائق والخرائط القديمة، ويقارن التقارير الصادرة عن أعمال البعثات الأثرية التي جالت في الأراضي الفلسطينية، بما في ذلك البعثات الإسرائيلية، ليدحض فكرة أن فلسطين هي أرض إسرائيل، بحسب ما تروج المنظمات الصهيونية منذ عقود. ويقدم للقارئ سردية معززة ومدعمة بالأدلة التاريخية العلمية، هي السردية الفلسطينية التي يصر مرارًا فيها على أن هذه الأرض كانت تحمل اسم فلسطين منذ العصر البرونزي، أي قبل نبوة موسى وعيسى. كما يؤكد أنها لم تكن فقط أرضًا تحمل هذا الاسم، وإنما أرضًا لشعب وكيان إداري اتخذ صيغًا مختلفة ومتطورة عبر العصور.
يجول مصالحة مع قارئه بين وثيقة تاريخية هنا وقطعة أثرية هناك ليكمل تكوين صورة تاريخ فلسطين الممتد لأكثر من أربعة آلاف عام، حيث تعايش فيها اليهود "أولاد العرب"، الذين يختلفون تمامًا عن المستوطنين الذين جاءوا لاحتلال الأراضي الفلسطينية، جنبًا إلى جنب مع أبنائها من المسيحيين والمسلمين. ويلتزم في إعادته المفصلة لحكاية فلسطين برواية من عاش ورأى وحكى أو بحسب ما يقول ويكرر في كتابه إنها حكاية التاريخ من منظور السكان الأصليين لفلسطين، وليس من منظور حاكم أو أعيان.
يقر مصالحة في أكثر من موضع أنه ليس من السهل ضمان أن تحظى هذه السردية المدعومة بالوثائق والكتب والخرائط باهتمام واسع، خاصة في ظل هيمنة الرواية التوراتية-التلمودية المختلقة. ويذكر مرارًا أن الحركة الصهيونية أحكمت بثها وترديدها ليس فقط على المستوى الدولي، وإنما أيضًا على المستوى الشعبي بين أبناء المستعمرات الاستيطانية.
إلا أن ما يجري اليوم على أرض فلسطين قد يبدو فرصة ممكنة لإعلاء الصوت مجددًا ونشر الحقائق حول أصول هذه الأرض الباسلة.