يقدم كتاب "أزمة الصهيونية" نظرة نقدية للحركة الصهيونية ولظاهرة الدعم الأمريكي المتنامي للتطرف الإسرائيلي. ينتقد مؤلف الكتاب بيتر باينارت "اليمين المتطرف"، ويعتبره مسؤولاً عن تدهور الوضع الأخلاقي والسياسي للدولة. ويتهم الجماعات الصهيونية الأمريكية بأنها شريكة لإسرائيل في احتلالها للضفة الغربية واستمرار أعمال الاستيطان. كما يثير أسئلة مهمة حول مستقبل "الدولة الديمقراطية" في إسرائيل ومستقبل الشرق الأوسط ككل، ويدعو إلى حوار مفتوح وجاد حول هذه القضايا الشائكة، مع دفاعه عن حل الدولتين باعتباره الحل الوحيد العادل والممكن.
عبدالله شاهين [1]
صدر كتاب "أزمة الصهيونية"[2] للكاتب والصحفي الأمريكي بيتر باينارت [3] عن دار جامعة ملبورن الأسترالية في عام 2012. وحظي بتغطية واسعة في الدوائر الأدبية والدينية والتاريخية، خصوصاً في أوساط الجالية اليهودية الأمريكية. وتراوحت ردود الفعل بين الترحيب من جهة والشجب والاستنكار من جهة أخرى؛ خاصةً من قبل المنظمات الداعمة لإسرائيل. من خلال هذا الكتاب يروي باينارت – والذي يصف نفسه بالصهيوني الليبرالي - قصة تكوّن الفكر الصهيوني، وارتباطه بمسيرة إنشاء دولة إسرائيل على أرض فلسطين التاريخية، لكن هذه اللمحة التاريخية قدمت على عجالة وبشكل سطحي يفتقر إلى ذكر السياقات التاريخية المصاحبة. كما أن فيه من التبسيط للجرائم الإسرائيلية التي ارتٌكبت قبل إعلان دولة إسرائيل وبعدها، ما يستجلب إعادة النظر في موضوعية الطرح الذي سوف يتبعه الكاتب في باقي الكتاب.
وجهان متناقضان للصهيونية: علمانية تقدمية أم استعمارية عنصرية؟
يوجه الكتاب بالمجمل نقداً لاذعاً للحالة المؤسفة للصهيونية، كما يراها الكاتب. ويدعو إلى إعادة التأكيد على "الارتباط بين القيم الليبرالية والالتزام اليهودي والممارسة الديمقراطية"، والتي يرى أنها جعلت إنشاء دولة إسرائيل "ممكنًا وهو المفتاح لبقائها الأخلاقي والمادي". يسعى الكاتب إلى تسويق فكرة أن الحركة الصهيونية كانت منذ نشأتها حركة علمانية ليبرالية تسعى إلى خلق وطن قومي لليهود في الأرض التي لهم ارتباط تاريخي فيها. لكنها كانت، وفقًا للكتاب، محاولة لخلق دولة ديموقراطية بالدرجة الأولى. وركز باينارت على الجذور اليسارية والليبرالية للحركة، من خلال تركيزه على التجارب الاشتراكية الاجتماعية في الكيبوتس، والتي كانت بنظره التمثيل "اليوتوبي" لما كانت عليه إسرائيل في ذروتها. كما سلط الضوء في سرده على الحس التنويري الذي تمتع به مؤسسوها، بدءًا من ثيودور هرتزل ومروراً بديفيد بن غوريون، وانتهاءً بإسحاق رابين، الذي رأى في اغتياله نقطة تحول كبرى في السياسة والمجتمع الإسرائيلي نحو اليمين المتطرف.
يعتبر الكاتب أن الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية كان نقطة بداية السقوط الأخلاقي والسياسي للصهيونية. وأن الأخطاء والتضليل العام الذي تمارسه العديد من الجماعات اليهودية القوية في الولايات المتحدة وإسرائيل يشكل خطرًا وجوديًا على إسرائيل كأمة وكدولة حديثة. ويرى هذا التحول نقضاً لقضية إسرائيل الديموقراطية الليبرالية التي كانت "نبيلة ذات يوم". وفقًا لباينارت فإن وصول حزب الليكود إلى السلطة بقيادة بنيامين نتنياهو كان الحدث الأخطر في تاريخ إسرائيل والأكثر تهديداً لمستقبلها.
من اللافت للنظر أن يخصص الكاتب جل كتابه للحديث عن أفعال وسياسات نتنياهو خلال فترات رئاسته للوزراء في إسرائيل، التي بدأت أول مرة عام 1996، وكيف أدت إلى تآكل البنية الأخلاقية لإسرائيل، وباتت تشكل خطراً وجودياً عليها. كما يستعرض مسيرة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، بدءًا من سباقه الانتخابي عام 2008، والدعم والتشجيع الذي حظي به من قبل اليهود في الولايات المتحدة، لافتًا إلى أن الكثير من الشباب اليهودي الليبرالي رأى في سياساته ومقارباته للقضية الفلسطينية روحاً جديدة تبشر بحل أخير للقضية الفلسطينية - الإسرائيلية. ويسرد تفاصيل العلاقة بين نتنياهو من جهة وأوباما وحكومته من جهة أخرى، من خلال قصص مطولة توضح أثر ضغط اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة على أوباما، وكيف أثر ذلك على تعاطيه مع الشرق الأوسط عموماً ومع القضية الفلسطينية بوجه خاص.
يتحدث باينارت بإسهاب عن المواجهات المباشرة وغير المباشرة بين نتنياهو وأوباما، وعن دور لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (أيباك) في ثني أوباما عن المضي في خطته للضغط على إسرائيل والدفع باتجاه حل الدولتين، وإعادة جزء كبير من المستوطنات غير الشرعية إلى الجانب الفلسطيني أو مبادلتها بأراضٍ مقابلها. ويُشير إلى أن هذا التراجع كان برأيه انتكاسة لمسيرة إسرائيل نحو الاستقرار والانفتاح على محيطها وعلى العالم. ويرى باينارت أن المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية تُشكل الفشل الأخلاقي الأكبر لإسرائيل، وأنها العائق الأهم لحل الدولتين، الذي يؤمن به كأفضل الحلول للقضية العربية - الإسرائيلية من وجهة نظره الشخصية. ولذلك، يُعلن دعمه لمقاطعة محدودة للبضائع المصنعة في تلك المستوطنات، والتي يطلق عليها "إسرائيل غير الديموقراطية".
ومن هنا، فإن باينارت يطلق صافرات الإنذار محذراً من خطر التطرف اليهودي المتزايد مع الوقت، والذي يرى أنه قد وصل إلى المدارس والمؤسسات اليهودية في الولايات المتحدة الأمريكية. ويشير إلى أن هذا التطرف أصبح يشكل خطراً على الهوية اليهودية الأمريكية بالمجمل، التي لطالما كانت تقدمية وليبرالية كما يراها. كما ينتقد بشكل لاذع لجوء العديد من اليهود إلى وضع أولادهم في المدارس اليهودية التي تعزلهم عن باقي المجتمع الأمريكي وتحرمهم من الروح العلمانية والليبرالية التي يراها أصل الفكرة الصهيونية.
يُواجه منظور باينارت للصهيونية العديد من الإشكاليات، بدءًا من إصراره على تقدميتها وانفتاحها بناء على كونها (أو كون مؤسسيها) علمانية المنشأ، بالرغم من كونها حركة قائمة بشكل حصري على تمايز ديني وعرقي. كما يرى في ميولها اليسارية دليلاً على أنها حركة تسعى لبناء دولة ديمقراطية وعدالة في منطقة لم تعرف سابقًا مثل هذه التقاليد الغربية المتنورة، وهذا يكفي لنفي أي تهم بالعنصرية لهذا الكيان الطارئ، وكذلك لأحقيتها بالوجود بالشكل الذي تراه هي محقاً ومبرراً، حتى بعيداً عن البعد الديني الذي تسعى إسرائيل للقيام على أساسه وتسويقه منذ التأسيس.
وبالتالي فإنه يرى أن هذا الجانب اليساري والعلماني من الحركة الصهيونية يلحقها بشكل عام باليسار التقدمي العالمي ويمنحها شرعية، كما يمنح قضيتها بعداً أخلاقياً لا يأبه ولا ينظر لما قامت هذه الحركة بفعله في سبيل قيام دولتها، ولا للأبعاد الاستعمارية التي مثلتها الحركة الصهيونية منذ يومها الأول. فيكفي أن يسكن ناشطون صهاينة في الكيبوتسات لتتحول إلى حركة اشتراكية، كما تكفي علمانية مؤسسيها لتلغي بعدها العنصري القائم على نسف هوية السكان الأصليين للأرض وحرمانهم من كامل حقوقهم، بل وإنكار إنسانيتهم وأهليتهم لاستحقاق العيش في أرضهم وبيوتهم، كما يتضح من أدبيات المؤسسين الصهاينة. فقد أشار القادة الإسرائيليون إلى الفلسطينيين على أنهم "وحوش تمشي على قدمين" (بحسب مناحيم بيغن)؛ وأنهم "مجموعة جراد" ( كما أشار إسحق شامير)؛ و"تماسيح" (إيهود باراك في تسعينيات القرن الماضي)؛ و"صراصير" (بحسب رافائيل إيتان). كل هذا سابق بعقود طوال لأحداث السابع من أكتوبر، والتي أعادت إلى الأضواء المنظور العنصري للحركة الصهيونية دون أي خجل.
تعد مقاربة الكاتب للقضية الفلسطينية - الإسرائيلية اختزالية تهدف لخدمة منظوره الأساسي بأن الحركة الصهيونية اليسارية التقدمية كانت تسير بخطى حثيثة نحو بناء دولة علمانية تُفضي إلى حل عادل للقضية الفلسطينية ممثلة بحل الدولتين. ورأى أن هذه الخطة تبددت بعد اغتيال رابين وصعود اليمين المحافظ إلى السلطة واستلامه لرئاسة الوزراء منذ منتصف التسعينيات. كما يضيف أن هذا الصعود اليميني الآخذ بالتطرف هو المسؤول عن تفاقم القضية الفلسطينية -الإسرائيلية، وأن نتنياهو، باعتباره رئيس الوزراء لمعظم هذه الفترة، مسؤول بشكل شخصي وشبه حصري عن التوسع الاستيطاني وتدهور الأوضاع مع الفلسطينيين وتراجع عملية السلام.
يلاحظ القارئ بوضوح هيمنة اسم "نتنياهو" على صفحات الكتاب، يليه اسم "أوباما" الذي حرص الكاتب على أن يصوره كرئيس شاب تقدمي طموح يسعى لحل عادل للقضية ويتصدى لنتنياهو ما استطاع. بل يستشعر القارئ لوهلة بأن الكتاب بأكمله هو تأريخ للسجال بين أوباما ونتنياهو، والذي يرى فيه أن نتنياهو واللوبي الإسرائيلي ذو الميول اليمينية في الولايات المتحدة قد خرج منتصراً.
ضحايا أم شركاء؟ إعادة تأطير دور الفلسطينيين في النزاع
يؤكد باينارت على وجود حقوق للفلسطينيين وعلى ضرورة العمل على تحقيقها، ويشير إلى أن حل الدولتين المنصوص عليه في اتفاق أوسلو كأفضل طريق لحل القضية الفلسطينية، ويُؤمن بإمكانية تحقيق هذا الحل وعدالته وقدرته على جلب السلام. ومع ذلك، لا يُقدم تفاصيل كافية حول طبيعة الدولة الفلسطينية وصلاحياتها ومدى سيادتها، كما لا يُناقش بشكل مُستفيض حقّها في الثروات والموارد الطبيعية الموجودة على أرضها. كما يرى أن الانتفاضة الثانية كانت مجرد رد فعل على اقتحام رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق آرييل شارون للمسجد الأقصى، بينما يُغفل الأسباب الأعمق لهذه الانتفاضة وجذورها التاريخية، ومدى تأثير فشل تنفيذ اتفاقيات أوسلو في تأجيجها. كما يرى بأنه يجب على إسرائيل أن تنقذ الفلسطينيين، وأن على اليهود الأميركيين أن ينقذوا إسرائيل. فبإنقاذ الفلسطينيين ستنقذ إسرائيل نفسها، وبإنقاذ إسرائيل، سينقذ اليهود الأميركيون أنفسهم. ويُعبّر الكاتب بوضوح عن اعتقاده قائلاً: "يجب على اليهود الأمريكيين الليبراليين أن يشعروا بالتزام خاص تجاه الطابع الأخلاقي لإسرائيل لأنهم يشعرون بالتزام خاص بكونهم يهودًا"... "عليهم أن ينظروا إلى شرفهم على أنه مرتبط بشرف الدولة اليهودية."
هذا الموقف النبيل في تحمل المسؤولية لا ينفي كونه موقفاً يحرم الفلسطينيين من النديّة والأهلية في صنع الحل والتأثير في شكله وخطته وآلية تنفيذه. فهم مختزلون في كونهم مجرد ضحايا يجب إنقاذهم، وعلى اليهودي الإسرائيلي النبيل واليهودي الأمريكي المخلص أن يتعاونا في تنفيذ الحل الذي يراه باينارت الأنسب لهذه المشكلة والأقدر على حفظ الشرف اليهودي. ومن هنا فما يجري هو انتصار للذات وليس انتصاراً لأصحاب حقوق تاريخية مغتصبة من قبل من يرى الكاتب أن الحل سوف يأتي من بين أيديهم. وبالتالي، يُصبح الخصم وشركاؤه مصدر الحل الأفضل، دون إتاحة أي دور للطرف الآخر في صياغة هذه الرؤية أو تنفيذها. بالطبع لست هنا لأخمن نواياه ولا أهدافه تجاه القضية الفلسطينية. وإنّ افتراض حسن النية لا يُلغي حقيقة أنّ هذا النهج الأبوي في التعامل مع الفلسطينيين في سؤالهم المصيري كان وسيبقى جزءاً متأصلاً من المشكلة مع الإسرائيليين، ومعضلة مزمنة في الفكر الغربي عموماً، وفي حل قضايا الشرق الأوسط على وجه الخصوص.
يبقى منظور الكاتب في المحصلة منظوراً خارجياً للصراع، ينبع من وجهة نظر يهودي أمريكي تقدمي متعاطف مع إسرائيل وفي الوقت نفسه متعاطف مع الحقوق الفلسطينية. إلا أنه أسير هذا المنظور الضيق لقضية تظهر في كتاباته تحيزات وبؤراً عمياء في رؤيتها. وبينما يسعى جاهدًا للتوفيق بين تناقضات متعددة ويدفع نحو حل الدولتين، نراه يفشل في إدراك المشاكل الجوهرية في الفكر الصهيوني التي تجعله العقبة الأكبر أمام أي حل ممكن. فكل محاولة للتوصل إلى حل لهذه القضية من منطلق يقبل الفكرة الصهيونية - التي حان وقت تجاوزها - ستصطدم مرارًا وتكرارًا بالمشكلات الهيكلية والجذرية التي تُعاني منها هذه الفكرة، والتي تجعلها جزءًا أساسيًا من المشكلة المعاصرة. إنّ البنية العنصرية للفكر الصهيوني وسعيه الحثيث للتماهي مع الغرب والتميّز عن محيطه على كافة الأصعدة لن يجعله حلًا في أي سيناريو ممكن. بل لعله من المنطقي أكثر القول بأن تفكيك البنية الصهيونية سيكون أحد أهم مفاتيح حل أزمة الشرق الأوسط المرتبطة بالصراع العربي الإسرائيلي.