يقدم كتابا "1967: إسرائيل، الحرب، والسنة التي غيرت الشرق الأوسط" و"أسياد البلاد: المستوطنون ودولة إسرائيل 1967-2004" تحليلاً عميقاً لأبعاد حرب 1967 وتداعياتها على المجتمع الإسرائيلي والمنطقة. فبدلاً من الاحتفاء بالنصر العسكري، يكشف الكتابان عن دورها المحوري في اندلاع الحرب وتداعياتها المعقدة على المجتمع الإسرائيلي والمنطقة، وكيف أسهمت هذه الحرب في تشكيل المشهد السياسي والاجتماعي في إسرائيل حتى يومنا هذا.
عمر كامل [1]
أطلق العرب على حرب 1967 مسمى نكسة لفداحة الخسائر. فقد احتُلت شبه جزيرة سيناء وهضبة الجولان السورية، كما استولت إسرائيل على قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية. أسهمت الحرب في تمدد الكيان الجغرافي للإسرائيليين إلى ثلاثة أضعاف، ومنحتهم شعوراً عارماً بالأمن والأمان، لدرجة جعلتهم يعتبرون أن قيام الدولة الحقيقي كان في يونيو/ حزيران 1967، وما مايو/ أيار 1948 إلا مجرد حجر أساس.
رغم ذلك، يتساءل البعض حول حقيقة انتصار إسرائيل في الحرب فعليًا؟ وما هي علاقة هذه الحرب بما يحدث من صراع بين متدينين وعلمانيين وإشكالية علاقة الدولة والدين في "إسرائيل" اليوم؟ لتأتي الإجابات في بعض الكتب التي كتبها مؤرخون إسرائيليون تناولت الحرب من زاوية مختلفة.
ليس عجبًا أن تلاقي الكتابات الإسرائيلية، التي تسوّق للحرب كحرب عدوانية قادها جمال عبد الناصر للقضاء على إسرائيل، وإلقاء الشعب اليهودي في البحر، رواجًا كبيرًا على الصعيد الدولي خاصة وأنها قدمت "إسرائيل" للغرب، المُحمل بويلات محرقة اليهود في الحرب العالمية الثانية، كحمل وديع يناضل من أجل وجوده أمام ديكتاتور يريد القضاء عليه. كما ركزت الكثير من الكتابات الإسرائيلية التقليدية على تصوير الحرب بوصفها معركة مصيرية قادها جيش لا يقهر، هزم الجيوش العربية، ونجح في تأمين كيان الدولة وضمن بقاءها للأبد.
وسط هذه الكتابات السائدة، ظهرت في منتصف الثمانينات وأوائل التسعينات من القرن الماضي مدرسة "المؤرخون الجدد"، وهو مصطلح يطلق على مجموعة من الكتاب والأكاديميين الإسرائيليين؛ ممن وقفوا ضد أساطير الرواية التاريخية الصهيونية في سردها للصراع العربي الإسرائيلي. ينتمي المؤرخ توم سيجف إلى هذه المدرسة بكتابه "1967: إسرائيل، والحرب، والسنة التي غيرت الشرق الأوسط"، والذي يُعد ثورة ضد الرواية الإسرائيلية والدولية للحرب. صدر الكتاب عام 2005؛ أي بعد مرور 38 عامًا على الحرب.
تأريخ مختلف
استغل سيجف رفع الحظر العسكري الذي كان يفرضه الجيش على مجريات حرب 1967، وكذلك إتاحة الأرشيف الإسرائيلي الرسمي عن الحرب، ليفند الرواية الصهيونية، ويعيد كتابة قصة الحرب عبر 710 صفحة غنية بالوثائق والشهادات لمن عاشوا تلك الفترة.
يتطرق الكتاب في مجمله إلى أثر الحرب على المجتمع الإسرائيلي، والشرق الأوسط، والسياسة الدولية. وهنا أود التركيز على نقطتين محوريتين: النقطة الأولى خاصة بأسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر، إذ يفكك الكتاب هذه الصورة الأسطورية لجنرالات الحرب في إسرائيل، ويقدم وزير الدفاع حينها موشيه ديان (1915-1981) ومعه رئيس أركانه إسحاق رابين (1922-1995)، كمحتالين، ومروجَيْ أكاذيب، بإدعائهما أن إسرائيل تواجه خطر الفناء، وأن الجيوش العربية حينها تشكل خطورة عسكرية على كيانها. لكنهما نجحا، بحسب سيجف، في استفزاز الرئيس المصري جمال عبد الناصر لمعركة هم يعرفون جيدًا أنه سيخسرها، وأن النصر سيكون حليفهم.
أما النقطة الثانية فهي تحليل سيجف للمجتمع الإسرائيلي قبل حرب 1967 كمجتمع مهاجر من أصول مختلفة، غلب عليه التشرذم والانقسام: فهناك الانقسام الديني الإيديولوجي بين يهود علمانيين و يهود متدينين. وهناك الانقسام العرقي الطبقي، بين يهود شرقيين غالبًا فقراء، ويهود أوربيين، غالبًا من أصحاب رؤوس الأموال، يمتلكون هيمنة سياسية واقتصادية وثقافية. وعوضًا عن ترتيب البيت الداخلي في إطار حدود حرب 1948 المعترف بها دوليًا، خاضت إسرائيل حربًا أتت عليها بويلات: فأصبحت دولة احتلال في نظر القانون الدولي. كما زادت حدة الصراع في المجتمع الإسرائيلي، حيث انتقل اليهود الشرقيون في صراعهم الطبقي، بفضل معرفتهم للغة العربية، من مجرد عمالة رخيصة إلى إدارة الأراضي العربية المحتلة. وأصبح الاحتلال تذكرة دخولهم والاعتراف بهم في مجتمع يسيطر عليه يهود أوروبا من الأشكناز. أما اليهود المتدينون فقد قويت شوكتهم، وعلا شأنهم مع احتلال أماكن لها قدسية عند اليهود مثل شبه جزيرة سيناء، والقدس الشرقية والضفة الغربية.
حرب داخلية
إلى جانب كتاب سيجف، يبزغ كتاب "أسياد البلاد: المستوطنون ودولة إسرائيل 1967-2004" للمؤرخة الإسرائيلية الشهيرة عديت زرطال والصحافي المخضرم بجريدة هآرتس الإسرائيلية عكيفا الدار. صدر الكتاب عام 2004 ليغوص في شرح إشكالية الدولة والدين، ويركز على ما يمكن تسميته بمعضلة النشأة الجغرافية للدولة العبرية، التي قامت سنة 1948 على أطلال مدن فلسطينية وبعض الكيانات اليهودية وليدة القرن العشرين مثل تل أبيب (1906) ونتانيا (1929)، أو بعض ما يعرف بـ القرى التعاونية الزراعية (الكيبوتسات). لا تمتلك جميع هذه الأماكن في الرواية الدينية اليهودية قيمة تذكر، بما يناقض مبدأ قيام دولة يهودية على مدن علمانية الجغرافيا.
من هنا اكتسبت سيطرة الإسرائيليين على شبه جزيرة سيناء، والتي شهدت نشأة الدين اليهودي، في 1967 أهمية كبيرة؛ لأن الدولة التي قامت سنة 1948 إنما قامت على هامش وتخوم إسرائيل التوراتية، أي أنها إسرائيل علمانية، لا معنى لها ولا طعم في عُرف كل يهودي يفهم أصول دينه. أما إسرائيل الحقيقية، أرض الميعاد، فهي تلك الأراضي التي سيطرت عليها الدولة العبرية في سنة 1967، وتمثل قلب الرواية الدينية اليهودية.
ويوضح الكاتبان أن بعض القيادات الدينية اليهودية في إسرائيل قد استقبلت هذا الوضع الجديد كرسالة من السماء، بل بكونها أمرًا إلهيًّا، يجعل الاستيطان بها واجبًا دينيًّا، من يتبعه يُرضي المشيئة الإلهية، ومن يعارضه، يعصي الله. وهكذا وجدت حكومة إسرائيل نفسها في معضلة، فهل تعيد أرض الأجداد إلى أطراف عربية مقابل اتفاق للسلام، فتغضب المتدينين بعصيانها للمشيئة الإلهية؟ أم تُرضي المتدينين وتحتفظ بأرض الميعاد الحقيقية؟ في النهاية قررت إسرائيل الاحتفاظ "بهدية السماء" معللة ذلك بالأهمية الأمنية التي تشكلها تلك الأماكن لكيان الدولة بما يرضي الجنرالات، ويشبع رغبات الحاخامات.
يركز الكاتبان بالدرجة الأولى على دور الحاخام تسفي يهودا كوك (1891-1982)، الذي كان أول من أدرك القيمة الدينية للفوز العسكري لإسرائيل في حرب 1967، فاستغل "العودة" إلى أرض الأجداد ليؤسس إيديولوجية دينية قومية، أو ما بات يعرف باسم الصهيونية الدينية. تشجع هذه الإيديولوجية اليهود المتدينين للانتقال من إسرائيل التي أُسست في 1948 والاستيطان في الأراضي التي ضمت في 1967. ومع عشية انتهاء الحرب، ودون تصريح من الحكومة، استولى أتباع الحاخام كوك على إحدى الهضاب المطلة على مدينة الخليل، وقرروا الاستيطان بها، معربين عن استعدادهم للموت في سبيل تحقيق المشيئة الإلهية بالعيش في أرض الأجداد.
قلب النصر العسكري الإسرائيلي الموازين، بحسب زرطال والدار. إذ أخذ الحاخام كوك وأتباعه على عاتقهم تنقية الدولة من صهيونية تيودور هرتزل ودافيد بن غوريون وغيرهم من العلمانيين الصهاينة، وإنشاء صهيونية دينية تكون المرجعية فيها للحاخامات، وبخاصة إلى الأب الروحي لحركة الاستيطان الحاخام تسفي يهودا كوك.
بناء على ذلك، نجح مناحيم بيجن (1913-1992) في قيادة حزب الليكود اليميني، واقتناص فوز ساحق على حزب العمل مؤسس الدولة، وصاحب التوجهات اليسارية العلمانية، وإبعاده عن سدة الحكم في انتخابات الكنيست الإسرائيلي في العام 1977. نعم، تمكن بيجن من إزاحة هيمنة اليسار الصهيوني العلماني بمساعدة أصوات اليهود الشرقيين، وبدعم من تيار الصهيونية الدينية. وكان إصرار بيجن على الاحتفال بالنصر في أحد المستوطنات تحولا محوريًّا في السياسة الإسرائيلية يعكس اعتراف أكبر قوة حزبية في البلاد، حزب الليكود، بتيار الصهيونية الدينية كشريك وحليف في الحكم. وتحول أتباع الحاخام كوك من مجرد تيار راديكالي في 1967 إلى مركزية الحدث السياسي في العام 1977.
الحال اليوم
اختارت زرطال والدار "أسياد البلاد" كعنوان للكتاب لتوصيف صعود التيار الديني الصهيوني، وهو عنوان يغلب عليه التنبؤ بالمستقبل. فهل تحققت النبوءة وأصبح أتباع تيار الصهيونية الدينية سادة البلاد فعلاً؟ بعبارة أخرى، أين تقف إسرائيل الآن بعد مرور 56 عامًا على نهاية حرب 1967؟ الإجابة: إسرائيل تقف أمام المحكمة، بالمعنى الحرفي للكلمة.
يعيش الشعب الإسرائيلي في حالة استقطاب وانقسام حول نزاع قانوني بين ما يسميه اليمين بدعم من المتدينين، بإصلاح المحكمة الدستورية العليا، وما يسميه اليسار والوسط الإسرائيلي - ذو الصبغة العلمانية - بالانقلاب على المحكمة الدستورية، وبالتالي على المبادئ الصهيونية للدولة.
يقول البعض إن سعي بنيامين نتنياهو لإصلاح الجهاز القضائي هدفه الهروب من حكم السجن وهو متهم بقضايا فساد. لكن الصراع الدائر حاليًا حول مستقبل المحكمة الدستورية العليا له أسباب أخرى، أهمها يكمن في إشكالية علاقة الدولة والدين. فالمحكمة الدستورية العليا مؤسسة تشريعية ذات ثقل، ومن يريد أن يكون له كلمة في تشريع القوانين الأساسية في البلاد، عليه ألا يكون ممثلاً فقط في البرلمان، بل وأيضًا في المحكمة الدستورية العليا.
ولأن المحكمة الدستورية هي مؤسسة علمانية لا يؤدي الدين اليهودي فيها دورًا يذكر، فإن نجاح نتنياهو في "إصلاحها" وتعيين قضاة، يعني دخول الدين اليهودي كمصدر للتشريع، وهو ما تخشاه التيارات العلمانية؛ لكونه يعطي الحكومة سلطة فوق السلطة التشريعية، ويضع إسرائيل على بداية الطريق لأنْ تصبح دولة دينية فعليًا.
الخلاص الديني مقابل الخلاص السياسي
تبدو مخاوف العلمانيين الإسرائيليين محقة، والشواهد على ذلك كثيرة؛ فمنذ حرب 1967 يزداد المتدينون قوة، ويزداد العلمانيون ضعفًا، ويقترب الشارع الإسرائيلي أكثر فأكثر من الدين، ويخفت معه نور علمانية جيل الأوائل. لقد أصاب كل من عديت زرطال وعكيفا الدار في رؤيتهم لحرب 1967 كحرب جعلت من المستوطنين من أتباع الصهيونية الدينية قوة لا يستهان بها، حيث خلقت وضعًا أكثر تعقيدًا في المجتمع، خاصة وأن التيار الديني في إسرائيل ليس على قلب رجل واحد، بل هناك قضية عقائدية لا إجماع حولها عبر التاريخ اليهودي، ألا وهي مسألة الخلاص الديني كما يؤمن به اليهود.
في إسرائيل تياران دينيان رئيسيان: تيار ديني صهيوني، وآخر حريدي (يمكن تسميته مجازاً سلفيا). ينتظر كلا التيارين ظهور الماشيح، أو كما نقول بالعربي المسيح. وطبقًا للعقيدة اليهودية، يظهر المسيح لخلاص الشعب اليهودي من ويلات الظلم والاضطهاد - يحرر اليهود في فلسطين، وعاصمتها أورشليم / القدس، ويعيد بناء هيكل سليمان، ومن ثم ينطلق لإنقاذ البشرية. يؤمن التيار الديني الصهيوني بأن حرب 1948 عامة وحرب 1967 خاصة هي من علامات قرب ظهور المسيح. وعليه فإن الاستيطان، وفرض الشرع اليهودي وتهويد العلمانيين، وهدم المسجد الأقصى لإعادة بناء الهيكل ماهي إلا خطوات استباقية واجبة للتعجيل بقدوم المسيح. على العكس من ذلك، هناك إجماع من اليهود الحريديم بأن الخلاص عبر المسيح هو أمر إلهي، حينما يريده الله، سيكون. وعليه لا يحق للإنسان التدخل فيه من قريب أو بعيد، ومن ثم فإن التيار الحريدي يمانع الاستيطان، ويعيش أتباعه في أحياء خاصة بهم في المدن الإسرائيلية، ويحرّمون الاختلاط بالعلمانيين من اليهود، ويعارضون التواجد اليهودي في باحة الحرم الشريف.
من هنا لا تشكل إشكالية الدين والدولة في إسرائيل فقط نزاعًا سياسيًا بين حزب وآخر، ولا صراعًا إيديولوجيًا بين تيار ديني وتيار علماني، بل يمكننا القول إن إسرائيل تعيش معركة وجودية بين أخوة أعداء، يغني كل فيها على ليلاه، فقد ترى علمانيًا ضد متدين، وعلمانيًا يمينيًا ضد علماني يساري، ومتدينًا حريديًا ضد متدين صهيوني، وقد ترى الجميع ضد بعضهم بعضا.
لقد أسهمت حرب 1967 في خلق هذا الوضع، إن لم تكن أرست له حجر الأساس، كما أوضحت كتابات توم سيجف وعديت زرطال وعكيفا الدار. وهو ما يعيدنا مجددًا للسؤال الذي يطرحه عنوان المقال: هل خرجت إسرائيل من هذه الحرب منتصرة حقا؟
أرى نفسي أمام إجابة "بنعم" صغيرة ملحوقة بـ "لكن" كبيرة. بعبارة أخرى، يشبه نصر إسرائيل في حرب 1967 ما يسمى في التاريخ اليوناني القديم بـ"نصر بَيروسِي"، أي نصر عسكري في ساحة المعركة، لكنه باهظ التكلفة. نعم؛ انتصرت إسرائيل في حرب 1967 نصرًا بَيروسيًا، لكن ثمن هذا الانتصار كان حالة الانقسام التي يعيشها المجتمع الإسرائيلي اليوم، والتي تكاد أن تعصف به، وتجعله انتصارًا بطعم الهزيمة.