يتناول كتاب "إسرائيل وجنوب أفريقيا: أوجه متعددة من الفصل العنصري" الأوجه المتعددة للأبارتهايد في مقارنة بين نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا والسياسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين. يُقدّم إيلان بابيه من خلاله لمجموعة من المقالات الأكاديمية والتحليلية التي تبحث في الجذور التاريخية المشتركة، وتحلل السياسات والقوانين المُطبقة في سياق الفصل العنصري.
شريف ألبير [1]
في رد فعل متفرد على العدوان الإسرائيلي على غزة، قدمت جنوب أفريقيا في كانون الأول / ديسمبر الماضي دعوى أمام محكمة العدل الدولية، لإثبات أن إسرائيل ترتكب جريمة إبادة جماعية في قطاع غزة، وذلك استنادًا إلى اتفاقية "منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها" الصادرة عن الأمم المتحدة عام 1948. حظيت هذه الخطوة بتقدير كبير في الشارع العربي، وأثارت تساؤلات حول دوافع جنوب أفريقيا والروابط التي تربطها بالشعب الفلسطيني وكفاحه ضد الاحتلال الإسرائيلي.
يُقدم كتاب "إسرائيل وجنوب أفريقيا: الأوجه المتعددة للفصل العنصري"[2] إجابة عن هذه التساؤلات عبر طرح وتحليل أوجه التشابه (والاختلاف) بين تاريخ جنوب أفريقيا في ظل الفصل العنصري للبلاد "حكم الأقلية البيضاء" ونضال السكان الأصليين ضده، بهدف استخلاص الدروس المستفادة من تجربتهم وطرح حلولٍ ممكنة للقضية الفلسطينية.
يقع الكتاب، الذي أشرف عليه إيلان بابيه، في عشرة فصول يتناول فيها أكاديميون وسياسيون وكتّاب وصحفيون جوانب مختلفة من واقع الفصل العنصري في إسرائيل، ويقارنونه بما كان سائدًا في جنوب أفريقيا. يشير بابيه في المقدمة إلى أن "حركة مقاطعة إسرائيل"[3] (BDS) المناصرة لفلسطين في الغرب، دأبت على تنظيم فعالية سنوية، غالبًا داخل الجامعات في أوروبا وأمريكا، تحت عنوان "أسبوع الفصل العنصري الإسرائيلي". ويرى بابيه أن هذه الفعاليات، وغيرها من مبادرات الحركة، تٌجسد رغبة في مقارنة الوضع في إسرائيل اليوم بنظام الفصل العنصري الذي كان سائدًا في جنوب أفريقيا.
يُرجع إيلان بابيه تأخر طرح المقارنة بين إسرائيل ونظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا على الصعيد الأكاديمي إلى المعارضة الشديدة التي تواجهها أي محاولة لربط إسرائيل بالعنصرية، سواءً في الدوائر البحثية في الغرب أو في إسرائيل نفسها. وذلك لِما تُمثله مثل هذه الاتهامات من ضررٍ جسيم على شرعيتها الدولية. ومن هنا تكمن أهمية هذا الكتاب وما يحتويه من دراسات علمية رائدة تُسلط الضوء على هذه المقاربة.[4]
"الطيور على أشكالها تقع"
في دراسته المعنونة "الطيور على أشكالها تقع: إسرائيل وجنوب أفريقيا العنصرية – كولونيالية من نوع خاص"،[5] يستعرض روني كاسريلز،[6] ترسانة القوانين التي سنّتها هاتان الدولتين الاستعماريتين لتفعيل الفصل العنصري. حيث استُهدف السود في جنوب أفريقيا، بينما استُهدف غير اليهود في إسرائيل. يهدف هذا النظام إلى حرمان هاتين الفئتين من حقوق المواطنة الكاملة، ومنعهم من تملك الأراضي والعقارات، وتقييد حرياتهم في السكن والعمل والتنقل والدراسة والزواج المختلط ... الخ. ويؤكد كاسريلز أن هذه القوانين العنصرية تُطبق على الفلسطينيين جميعهم، سواءً كانوا يعيشون داخل حدود ما قبل عام 1967 كمواطنين من الدرجة الثانية، أو في الأراضي المحتلة، أو كلاجئين في الخارج لا يُسمح لهم بالعودة.
يُشير كاسريلز إلى فارقٍ جوهريٍ بين الدولة الصهيونية وجنوب أفريقيا العنصرية؛ فبينما اعتمدت الأخيرة على العمالة السوداء الرخيصة كضرورة لنموها الاقتصادي، سعت إسرائيل جاهدة للاستغناء عن الأيدي العاملة الفلسطينية قدر الإمكان. بل عملت في الوقت ذاته على خنق اقتصاد الأراضي المحتلة بهدف دفع الفلسطينيين المتبقين إلى الهجرة والتخلص منهم نهائيًا. ويمضي في مقارنته ليُثبت أن كلا النظامين شريكان في "الأجندة الاستعمارية". فيقول "إنني أتفق تمامًا، وأرى أنه من الضروري إدراك العامل الاستعماري في فهم القضية الفلسطينية [...] إنّ الأجندة العنصرية والاستعمارية الصهيونية الإسرائيلية هي السبب الأساسي للصراع، كما كان الحال في نموذج جنوب أفريقيا".
فيما يتعلق بالمشروع الكولونيالي، تقدم الدراسة شرحًا لملابسات قيام النظام العنصري في جنوب أفريقيا سنة 1910، وتقارنه بقرار تقسيم فلسطين سنة 1947. ففي كلتا الحالتين، قام المحتل البريطاني بمنح الاستقلال وتسليم السلطة للأقلية (البيضاء في جنوب أفريقيا، اليهودية في فلسطين). كما أدت الدولتان دورهما المطلوب في خدمة الإمبريالية، إذ "منذ البداية، لم يتردد الصهاينة، مثل] تيودور[ هرتزل، في وضع الدولة اليهودية المستقبلية تحت تصرف الإمبريالية"... "ووعد بأن مثل هذه الدولة ستشكل بالنسبة لأوروبا في فلسطين جزءًا من الجدار ضد آسيا، وتكون بمثابة طليعة الحضارة ضد البربرية". وقد تجلى ذلك بوضوح في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 بالاشتراك مع بريطانيا وفرنسا، وفي الاستيلاء المؤقت على قناة السويس.
يواصل كاسريلز شرحه قائلاً، "كانت شراكة إسرائيل مع القوى الغربية تُماثل شراكة دولة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، التي أعلنت بإخلاص عن خدمتها في الحرب ضد الشيوعية خلال الحرب الباردة. ومثلها فعلت الدولة الإسرائيلية تجاه مصر والعراق ولبنان وسوريا والأردن. كما سعت جنوب أفريقيا إلى زعزعة استقرار أنغولا وموزمبيق وناميبيا وزيمبابوي بهدف صدّ التهديد الصيني-السوفييتي المزعوم." وهكذا، يرى كاسريلز أنه في الوقت الذي كانت فيه جنوب أفريقيا منبوذة من قبل العالم أجمع، نشأت بينها وبين إسرائيل "علاقة آثمة" تمثلت في التعاون العسكري وصفقات السلاح.
حقوق بلا معنى ومساواة وهمية
في دراسته المعنونة "مساواة شكلية"،[7] يشير جوناثان كوك[8] إلى أن إسرائيل حرصت منذ البداية على أن تختلف عن جنوب أفريقيا العنصرية في نهجها ضد السود. فبينما اعتمدت الأخيرة على الوسائل القانونية والإدارية لفرض التمييز، اتبعت إسرائيل سياسة تمييزية خفية لم تكن أقل ضررًا على الفلسطينيين. وفقًا لكوك، أن الفرق بين السياستين كان يكمن في وضوح التمييز، فلم تكن "التفرقة بين المقاعد في الحدائق العامة والحافلات، أي الأبارتهايد ’الساذج‘ الذي اشتهرت به جنوب أفريقيا، ضرورية لكي يتسم النظام السياسي بالتفرقة".
يقدم كوك تعريفًا للفصل العنصري على أنه التمييز في المعاملة بين السكان على أساس إثني أو عرقي، باستخدام القانون والإجراءات الإدارية والممارسات الرسمية، بهدف تمكين مجموعة من السيطرة على الموارد على حساب مجموعة أخرى. ويؤكد كوك هنا ما أورده كاسريلز عن القوانين والقرارات "المفصّلة" خصيصًا لحرمان الفلسطينيين داخل وخارج حدود عام 1967 من حقوق المواطنة. وخلص، بعد تحليل دقيق للقوانين الأساسية لدولة إسرائيل، إلى وجود فصل صارم بين اليهود والفلسطينيين في إسرائيل في المجالات الرئيسية مثل: حقوق المواطنة، والحماية الدستورية، والتمثيل السياسي، وقوانين الأراضي والتخطيط، والتعليم، والتوظيف، وإنفاذ القانون. وأنّ القوانين المختلفة التي تحكم هذه الجوانب من الحياة تدعم وتعزز بعضها البعض، مما سمح للسكان اليهود بالسيطرة على موارد البلاد، وخاصة الأرض والمياه، لمصلحتهم الخاصة.
أما عن الأساليب المتبعة لمنح فلسطينيي الداخل بعض المساواة الشكلية الزائفة، فيقدم كوك بعض الأمثلة، أبرزها اعتبار المحكمة العليا في البلاد حصنًا ضدّ الفصل العنصري في إسرائيل. غير أنه بعد دراسة قراراتها، يخلص إلى أنّ تلك المحكمة العليا غالبًا ما تُؤيد هذا القمع. مثال آخر يُقدمه على ما يعده ذرًّا للرماد في العيون هو منح فلسطينيي الداخل الحقّ في التصويت والترشح. هنا يرى كوك أنّ هذا الحق قد فرّغ من مضمونه؛ إذ لا يسمح للفلسطينيين بتشكيل تحالفات مؤثرة أو بالمشاركة في المناصب الحكومية، ولا يمكن أن يعد حقًا يضمن المشاركة السياسية، بل هو مجرد واجهة تتيح إقصاء المواطنين الفلسطينيين بدلاً من دمجهم.
كما ناقش هذا الفصل من الكتاب بإسهاب حقوق الجنسية والمواطنة في إسرائيل، وكشف كيف فُرِّغَت الجنسية الممنوحة لفلسطينيي 1948 من محتواها من خلال فصل الحقوق المرتبطة بالجنسية عن تلك المرتبطة بالمواطنة. يقول كوك في هذا الشأن: "إن مفهوم المواطنة معقد بشكل خاص في إسرائيل، وذلك لسبب وجيه. فهناك قانونان مهمان يحددان المواطنة: قانون العودة (1950) وقانون المواطنة (1952)، وكل قانون يخلق فئة مختلفة وغير متساوية على أساس الانتماء الوطني". ثم يضيف مفصلا:
"يمنح قانون العودة جميع اليهود في كل مكان الحق التلقائي في القدوم إلى إسرائيل ليصبحوا مواطنين. وعلى النقيض من ذلك، فإن قانون المواطنة، بينما يمنح الجنسية للفلسطينيين الذين بقوا داخل حدود إسرائيل في عام 1948، يفرض قيودًا صارمة على منح الحقوق نفسها لغير اليهود. وبشكل خاص، يحرم هذا القانون 750 ألف لاجئ فلسطيني من حرب عام 1948 والملايين من أحفادهم من حق العودة إلى ديارهم والمطالبة بالجنسية الإسرائيلية. ويهدف هذان القانونان معًا إلى ضمان بقاء إسرائيل دولة يهودية للأبد".
وهكذا، أثبت كوك من خلال مساهمته في هذا الكتاب أن الفلسطينيين جميعهم، سواء كانوا من داخل حدود ما قبل 1967 أو خارجها، يعيشون في ظل نظام من الفصل العنصري مشابه لما كان سائدًا في جنوب أفريقيا.
طريق البانتوستانات يمر عبر أوسلو
وإذا كان كوك قد تناول سياسات الفصل العنصري ضد فلسطينيي الداخل، فإن مشاركة ليلى فرسخ،[9] المعنونة "الفصل العنصري وإسرائيل والدولة الفلسطينية"،[10] تركز على مناقشة الفصل العنصري الإسرائيلي داخل الضفة الغربية وقطاع غزة. وتقارن الواقع بالسياسات التي اتبعتها دولة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وذلك من خلال ما تسميه عملية تحويل الأراضي المحتلة إلى "بانتوستانات".
تطلق الـ"بانتوستانات" على المناطق التي خصصتها جنوب أفريقيا العنصرية للسكان السود (الأصليين) والتي كانت تتمتع بشكل من الحكم الذاتي تحت إشراف القوة الاستعمارية. وترى فرسخ أنّ البانتوستانات تُشكّل البناء الرئيسي للفصل العنصري. ففي كلتا الحالتين، سعى المستعمر إلى خلق هياكل مماثلة بهدف إيجاد "حل" لمسألة الحقوق السياسية للسكان الأصليين دون المساس بالتفوق السياسي والاقتصادي للمستوطنين.
تقول فرسخ أنه "منذ عام 1993 على وجه الخصوص، وبدءًا من عملية أوسلو، سعت إسرائيل إلى حل مسألة الحقوق السياسية والاقتصادية للسكان الأصليين من خلال حصرهم في مناطق مُجزأة إقليميًا وغير قابلة للحياة اقتصاديًا وسياسيًا. ولا تختلف هذه المناطق في هيكلها عن البانتوستانات الأصلية التي كانت تتمتع بالحكم الذاتي خلال حقبة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا".
لعل أهم ما في هذه الدراسة هو تحليلها لعملية السلام في جنوب أفريقيا، التي أدت إلى تآكل نظام الفصل العنصري، ومقارنتها باتفاقيات أوسلو التي لم تؤد إلا إلى تعزيز واقع الفصل العنصري وإبقاء الفلسطينيين تحت الاحتلال المستمر والسيطرة العسكرية والمدنية الإسرائيلية. وترى أن عملية أوسلو للسلام أدت إلى تفتيت المساعي الفلسطينية لإقامة دولة مستقلة من خلال منحهم حكمًا ذاتيًا لا يختلف كثيرًا عما عرضته البانتوستانات على السود في جنوب أفريقيا خلال حقبة الفصل العنصري. وتؤكد "أن فهم الطبيعة البانتوستانية للحكم الذاتي الفلسطيني أمر ضروري في أي محاولة لتفسير تطور الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وآفاقه".
وفي حين رفض حزب المؤتمر الوطني هذا "الاستقلال"، ولم يقبل فكرة انفصال الأمة الأفريقية، بل عدّ هذه البانتوستانات أداة في أيدي نظام الفصل العنصري مع عدم اعتراف المجتمع الدولي بها ككيانات ذات سيادة، نجحت إسرائيل، في المقابل، في إضفاء الشرعية الدولية على هذا "الانفصال" عن السكان الأصليين. كما قبلت القيادة الفلسطينية بالواقع الاستعماري الإسرائيلي، وتخلت عن أيّ مطالبة بـ 78% من فلسطين التاريخية، وعن أيّة حقوق للمواطنة داخل إسرائيل.
في انتظار المستحيل: الحلول المستوحاة من تجربة جنوب أفريقيا
يمكن أن نعد تناول فرسخ لمباحثات أوسلو تمهيدًا للجزء الأخير من الكتاب، الذي يسلط الضوء، من خلال ثلاثة فصول، على آفاق حلول ممكنة للقضية الفلسطينية باستلهام تجربة جنوب أفريقيا. في الدراسة التي قدمها ستيفن فريدمان[11] والمعنونة بـ"المستحيل الذي لا مفر منه: تجربة جنوب أفريقيا والدولة الواحدة"،[12] لا تطرح تجربة جنوب أفريقيا كنموذج صالح للتطبيق بكل تفاصيلها على الشرق الأوسط، بل يشرح فريدمان كيف توصل سكان جنوب أفريقيا البيض إلى استنتاج مفاده أن الدولة الديمقراطية جديرة بضمان مصالحهم أكثر من الهيمنة والانفصال عن السكان الأصليين. وعليه، يتوقع مسارًا فلسطينيًا-إسرائيليًا ينطلق من حل "الدولتين" ليتطور لاحقًا إلى حل الدولة الواحدة لصالح الفلسطينيين واليهود على حدّ السواء.
يرى فريدمان أن من أوجه التشابه بين الصهيونية والقومية الأفريكانية[13] هو اعتقاد كلتا المجموعتين بأنه لا يمكن ضمان بقائهما كمجموعة "مختارة من الله" في وسط بيئة معادية إلا من خلال دولة ذات حدود عرقية أو ثقافية محددة. "ولهذا، يرى كلاهما أنّ الدولة القومية ذات السيادة و‘الإقليم الوطني الحصري‘ شرطان ضروريان للسلامة". ولكن كيف توصل القوميون الأفريكان إلى أنّه يمكن أن يكون هناك مستقبل دون هيمنة عرقية على الدولة؟ تجيب هذه الدراسة على هذا السؤال عبر استعراض فريدمان لثلاث مراحل مرّت بها تجربة التحرّر في جنوب أفريقيا، ثم يقارنها بما حدث وما يمكن أن يحدث في الحالة الفلسطينية-الإسرائيلية.
في محاولة لتقوية قبضة السلطة في مواجهة الضغوط الداخلية والخارجية، والالتفاف على مطالب السود السياسية لجأ نظام الحكم العنصري إلى تبني استراتيجية تمثلت في إنشاء مناطق عرقية "متمتعة بالحكم الذاتي" أو "مستقلة" للسود، عرفت باسم "البانتوستانات". كان الهدف الأساسي من هذه الخطوة هو ترسيخ سيطرة البيض على 87% من مساحة البلاد، بينما يتم تخصيص الباقي للسود كمساحة محدودة "للحكم الذاتي". لكن سرعان ما واجهت هذه البانتوستانات عقبات كبيرة حالت دون تحقيقها للحكم الذاتي الحقيقي. فمن ناحية، لم تتوفر للسكان السود موارد كافية، بما في ذلك الأراضي، لتحقيق الاكتفاء الذاتي. ومن ناحية أخرى، سادت مخاوف لدى النظام العنصري من تحول هذه المناطق إلى مراكز قوة مستقلة للسود تهدد سيطرته. واجه نظام الفصل العنصري تحديات أخرى جسيمة، أهمها مقاومة السود (السكان الأصليين) المتواصل والضغوط الدولية المتزايدة. وبسبب هذه الضغوط المتراكمة، انهار نظام الفصل العنصري في النهاية بعد صراع طويل وشاق.
تُشير الدراسة إلى أنّ الصهيونية تواجه ضغوطًا مشابهة لتلك التي واجهتها القومية الأفريكانية في الماضي. وفي هذا السياق، يُقارن فريدمان "حل الدولتين" بمحاولة نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا إنشاء مناطق حكم ذاتي للأغلبية السوداء مع الحفاظ على سيطرة عرقية - في هذه الحالة، دولة يهودية على مساحة أصغر. من وجهة نظر فلسطينية يعد وجود "دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة اقتصاديًا ضروريًا لتحقيق تطلعات الفلسطينيين. ويتطلب ذلك، من بين أمور أخرى، تعاونًا تنمويًا واسعًا، واستثمارًا للوقت والمهارات بالإضافة إلى المال، وفتح أسواق العمل الإسرائيلية وغيرها من المؤسسات أمام الفلسطينيين". أما من وجهة نظر إسرائيلية، أي من خلال النظر إلى ما فيه مصلحة الإسرائيليين أنفسهم، فقد أثبت نظام الفصل العنصري فشل سياسة المؤسسات المنفصلة في المناطق الفقيرة، ممّا أدى إلى استمرار الفقر والسخط، وهذا ينطبق أيضًا على الأمن. "فمن الواضح أنّ اليهود الذين يعيشون في الديمقراطيات الليبرالية يتمتعون بأمان أكبر من أولئك الذين يعيشون في دولة يهودية". لذلك، يأمل فريدمان أن يعيد اليهود الإسرائيليون النظر في مفاهيمهم بطرق من شأنها بلورة رؤية لدولة ديمقراطية ليبرالية مشتركة كمصدر أكثر ضمانًا للأمن اليهودي من نظام سياسي قومي عرقي. "لكن يتطلب ذلك اعترافًا إسرائيليًا بتشابك مصير اليهود والفلسطينيين". ونجد مثالاً على هذا الأمل في مقالة فيرجينيا تيلي،[14] التي تدافع بدورها عن حل الدولة الواحدة في فلسطين/إسرائيل.
حل الدولة الواحدة: الطريق نحو السلام
بينما يُطرح حل الدولتين كحل مشترك، ولو أنه لم يُطبق حتى الآن، للصراع في إسرائيل وفلسطين، ترى تيلي أن هذا النموذج سيُضفي الشرعية على الاستعمار الإسرائيلي للأرض الفلسطينية التاريخية. تستهل تيلي بحثها "إعادة تعريف الصراع في إسرائيل وفلسطين: مسألة السيادة الخادعة"[15] بمقارنة بين وضع إسرائيل تجاه الأراضي الفلسطينية المحتلة وحكم جنوب أفريقيا لناميبيا. ففي كلتا الحالتين، لم يكن هناك إطار قانوني يُنظم وجود المُحتل الذي استغل ذلك ليرسخ ممارساته العنصرية والإفلات من مسؤولياته تجاه السكان الأصليين.
يعود تاريخ حكم جنوب أفريقيا لناميبيا إلى تفويض من عصبة الأمم، مُنحت بمقتضاه جنوب أفريقيا انتدابًا من الدرجة "ج" على الإقليم الذي كان في السابق مستعمرة ألمانية. واستمرت حكومة جنوب أفريقيا في حكم ناميبيا بعد الحرب العالمية الثانية كمقاطعة تابعة لها. وتُشير تيلي إلى أنه على الرغم من افتقار جنوب أفريقيا إلى السيطرة الرسمية على ناميبيا، إلا أنها فرضت عليها نظام الفصل العنصري، متجاهلةً القانون الدولي وقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة التي طالبت بانسحابها.
تدعي إسرائيل أنها لا تتمتع بالسيادة القانونية على الأراضي المحتلة عام 1967، وهو ما سمح لها بتطبيق قوانينها بشكل انتقائي على سكان هذه المناطق دون التزام بأي إطار قانوني أو دستوري. لكن بعيدًا عن الادعاءات الإسرائيلية، تُشير تيلي إلى أن نمو المستوطنات، إلى جانب حزمة السياسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك الاستيلاء على الموارد الطبيعية مثل المياه الجوفية، وإنشاء بنية تحتية واسعة النطاق، وتطوير القطاع الزراعي والصناعي، ودمج كل ذلك في اقتصاد إسرائيل ومجتمعها، يكشف عن سيطرة إسرائيلية كاملة على الأراضي الفلسطينية المحتلة، تُمكنها من إدارتها والتصرف فيها كما تشاء.
بعد إجراء تلك المقارنة، وقبل الخوض في الحديث عن حلول مقترحة، تُشدد تيلي على أهمية التمييز بين "الاستعمار الكلاسيكي" الذي مارسته الدول الأوروبية من منتصف القرن السادس عشر إلى أواخر القرن التاسع عشر، و"الاستعمار الاستيطاني" الذي يتمثل في التوطين والاستيلاء على حقوق السكان الأصليين والسعي للحصول على اعتراف دولي، وتحويل نضالهم من أجل المساواة في الحقوق إلى "شأن داخلي".
تُمهد تيلي، من خلال التأكيد على هذا الفرق بين النوعين، إلى عرض رؤيتها للحلول المُقترحة. ففي ظل الاستعمار الاستيطاني، لا يمكن أن يكون الحل هو طرد المستعمر أو انسحابه. فترى في الحالة الإسرائيلية أن ضم الأراضي الفلسطينية (الذي وصل إلى مراحل متقدمة للغاية) يمثل ركناً راسخًا ومؤسسيًا لكل من الحكومات الإسرائيلية والقومية اليهودية، كما أن المجتمع الدولي لن يكون له التأثير الكافي لإحداث تغيير في ذلك. وفي هذا السياق، تتأثر تيلي بالمؤرخ الجنوب أفريقي بالو جوردان الذي قسّم تاريخ مقاومة جنوب أفريقيا السوداء إلى ثلاث مراحل. تتمثل المرحلة الأولى في كفاح الشعب لصد الاعتداءات على سيادته. ويفقد الشعب السيطرة العامة على الأراضي بشكل لا رجعة فيه، وتتحول المقاومة إلى الدفاع عن المجتمع واقتصاده ضدّ الدمج من قبل المستعمرين في المرحلة الثانية. أما في المرحلة الثالثة، يُسْتَوْعَب السكان الأصليون في الدولة الاستيطانية واقتصادها، ليصبحوا بعد ذلك خاضعين للقوانين والمؤسسات الديمقراطية الخاصة بالمجتمع الاستيطاني، مطالبين بالمساواة في الحقوق والحريات. بمعنى آخر، يُشير جوردان إلى وجود نقطة تحولٍ فاصلةٍ في هذه المراحل، يفقد عندها السكان الأصليون قدرتهم على توقع انسحاب المستوطنين.
في جنوب أفريقيا، صيغت هذه المرحلة الأخيرة في عام 1912 كبرنامج للمؤتمر الوطني الأفريقي، وبلغت ذروتها في انتخابات عام 1994 التي ألغت حكم الأقلية البيضاء، لكنها أكدت مبدأ "جنوب أفريقيا ملك لكل من يعيش فيها". وتشير وجهة نظر جوردان إلى أن الفلسطينيين في الأراضي المحتلة منخرطون في جميع مراحل المقاومة الثلاث في آن واحد. فبينما تتمسك بعض العناصر الفلسطينية بفكرة أن المقاومة المسلحة يمكن أن تجبر إسرائيل على الانسحاب من الأراضي المحتلة لإقامة دولة فلسطينية ذات سيادة (المرحلة الأولى)، فإن معظم الفلسطينيين في تلك الأراضي يتبعون نهج السلطة الفلسطينية في استخدام مزيج من المقاومة السلمية والصمود لصد التوغلات العسكرية والاقتصادية الإسرائيلية والحفاظ على المجتمع الفلسطيني في حيز متقلص، ولكنه متميز (المرحلة الثانية). ويتحول عددٌ صغيرٌ فقط (لكنه متزايد) من الفلسطينيين إلى مقاومة المرحلة الثالثة: أي قبول الهيمنة الإسرائيلية كواقع لا رجعة فيه، والاحتكام إلى المعايير والقيم الديمقراطية الإسرائيلية للمطالبة بالمواطنة الكاملة والحقوق المتساوية في دولة غير عرقية.
تخلص تيلي إلى أن سابقة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا تُساعد على توضيح أن رغبة إسرائيل في تسليم أجزاء من الضفة الغربية إلى "دولة فلسطينية" يمكن مقارنتها بشكلٍ أكثر دقة باستراتيجية البانتوستان: تركيز السكان الأصليين داخل جيوب خانقة ومفككة ومعيقة اقتصاديًا، حيث تأمل إسرائيل أن تُعفيها تلك السيادة الاسمية لـ "سلطات الحكم الذاتي" من المسؤولية عن فقرهم وبؤسهم ومن الإدانة الدولية لاستبعادهم السياسي. ومع ذلك، ترى تيلي أنه بالنظر إلى الحقائق على الأرض، فمن المنطقي الآن الاعتماد على تجربة جنوب أفريقيا في الاستعمار الاستيطاني وإعادة صياغة مفاهيم "الشعب" و"الأمة" و"الدولة" باعتبارها "دولة لجميع مواطنيها".
بين ثنائية القومية واستحالة التسوية
على نغمة أقل تفاؤلاً، أو ربما أكثر واقعية، يختتم ران غرينشتاين[16] هذا الكتاب بالتأكيد على أن التغلب على الفصل العنصري الإسرائيلي سيكون أصعب بكثير مقارنة بنظيره في جنوب أفريقيا.[17] ويعود ذلك إلى عدة عوامل أبرزها، التلاعب بذكرى المحرقة النازية في الغرب، وقوة اللوبي المؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة، وظهور قوى الإسلام السياسي داخل حركة المقاومة الفلسطينية؛ مما يمنعها من العمل بطريقة موحدة، ويضعف تعاطف الغرب معها، ويعرقل القرار الفلسطيني بشأن مسألة التمثيل.
ويرى غرينشتاين أن أي حل سياسي مستقبلي يجب أن يرتكز على الاعتراف بواقع الثنائية القومية واستيعاب أفراد المجموعتين الوطنيتين على قدم المساواة. فهذا برأيه هو الشرط الأساسي لنجاح أي تسوية، سواء كانت على أساس دولة واحدة أو دولتين. أما البديل فهو فرض حل من قبل طرف على آخر، مما سيجعل أي حل غير قابل للتطبيق.
في تفسيره لميثاق الحرية لعام 1955، الذي ينص على أن "جنوب أفريقيا تنتمي إلى كل من يعيش فيها، من السود والبيض"، يؤكد غرينشتاين أن ذلك يعني بالضرورة وبشكل مبدئي إزالة "جميع أشكال التفوق العرقي، سواء كانت تنفيذية أو هيكلية أو قانونية أو رمزية". أما تحويل إسرائيل الكبرى إلى دولة لجميع سكانها، وتأسيس مواطنة مشتركة، فيتطلب ذلك إجراء تغييرات جوهرية في حدود المواطنة وتوزيع السلطة، مما يتطلب بدوره إعادة تنظيم جذرية للمشهد السياسي. وهو ما يعده غرينشتاين تحولاً غير ممكن على المدى القصير، وذلك لغياب قوى سياسية جدية تدعمه في الوقت الحالي، كما أنه لا يُعدّ بديلاً للنضال المستمر ضد احتلال 1967.
وتخلص الدراسة في النهاية إلى أن لغة الديمقراطية والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان، وبينما تُمكّن من التواصل مع حركات العدالة العالمية ونضالات القوى المستقلة المتنوعة، ومنظمات المجتمع المدني، والناشطين الإعلاميين، إلا أنها لا تعالج القضايا الجوهرية للصراع الإسرائيلي الفلسطيني. فعلى المدى القصير إلى المتوسط، لا يبدو أنّ هناك احتمالاً لإضعاف الحدود بين اليهود الإسرائيليين والعرب الفلسطينيين أو بناء هوية تتجاوز الولاءات القومية.