يعرض كتاب "قصّة حياتي" سيرة الشاعرة القبائلية فاضمة آث منصور عمروش، التي وُلدت عام 1882 في مدينة تيزي هيبل في الجزائر. تقدّم هذه السيرة وصفًا للحياة اليومية للنساء القبائليات، موثّقةً أدوارهن الاجتماعية في ظل الاستعمار الفرنسي. كما تُشكّل مصدرًا تاريخيًا وأنثروبولوجيًا، يعكس صراع الهُوية الذي عاشته عمروش في ظل ثقافتين متناقضتين، ويلقي نظرة عميقة على مكانة المرأة والتحديات التي تواجهها في المجتمع القبائلي.
زهرة مصباح[1]
يُعدّ كتاب "فاضمة آث منصور عمروش: قصّة حياتي،"[2] أوّل ترجمة إلى اللغة العربية لهذا النص الصادر باللغة الفرنسية عام 1968.[3] تبدأ السيرة، المكونة من 270 صفحة، بكلمة افتتاحية لمترجمة الكتاب رشيدة سعدوني،[4] وتتضمن ترجمة لكلمتي فانسون مونتاي[5] وكاتب ياسين،[6] بالإضافة إلى رسائل متبادلة بين فاضمة وابنها جون عمروش.[7] يلي ذلك ترجمة لبقية الفصول الاثني عشر، وتُختتم السيرة بسبع قصائد لعمروش.
أكّدت رشيدة سعدوني حرصها الشديد على تقديم ترجمة وفيّة للنسخة الأصلية من الكتاب، التي لم تتّبع فيها الكاتبة تسلسلًا تاريخيًا واضحًا في سرد قصّة حياتها. فقد انتقلت فاضمة آث عمروش في روايتها بين ماضيها وحاضرها، ومن موضوع إلى آخر، ما يعكس الجانب العفوي والصّادق في أسلوب الكتابة.
تهدف هذه الترجمة إلى تمكين القرّاء الذين لا يجيدون اللغة الفرنسية من الاطّلاع على السيرة الذاتيّة لأوّل روائية في الجزائر وشمال أفريقيا. ومع نفاذ الطبعة الأولى من المذكرات الصادرة باللغة الفرنسية، جاءت الترجمة العربية لتحفظ ذاكرة فاضمة ومعاناة امرأة سعت إلى"بناء هويّتها في ظلّ ثقافتين متناقضتين، وهما ثقافة المنشأ (القبائلية) وثقافة التبنّي (الفرنسية)."[8] تبرز أهميّة هذه الترجمة من خلال ما تضمّنه من سرد لحياة الكفاح والنضال التي خاضتها عمروش – وأمّها- في مجتمع يختصر دور المرأة في الإنجاب ورعاية الزوج والأبناء، ويرفض كلّ أشكال الاختلاف الديني أو العرقي، وكلّ مظاهر التغيير التي قد تمسُّ بالعادات والتقاليد القبائلية. ومن هنا تقدم رشيدة سعدوني إضافة في مجال السّير الذاتية ولكل مهتمّ بالدراسات الأنثروبولوجية والعرقية في المغرب العربي والمنطقة العربية ككلّ.
ولادة "فاضمة آث عمروش"
وُلدت فاضمة سنة 1882 في مدينة "تيزي هيبل" القبائلية وهي واحدة من المدن الجزائرية التي وقعت تحت وطأة الاستعمار الفرنسي للبلاد عام 1830. يعود بنا الكتاب، في فصله الأوّل، إلى الأوقات الصّعبة التي مرّت بها والدة "فاضمة"، بعدما أنجبتها خارج إطار الزواج، وهو ما اعتُبر "خطيئة" ووصمة عار لازمت الأمّ وابنتها طوال حياتهما. تخلّى الأب البيولوجي لـفاضمة عن مسؤولياته بالكامل، وأنكر أبوّته لها، فيما اختار الزواج من امرأة أخرى. يوم الولادة، اضطرّت الأمّ إلى "قطع الحبل السُريّ بأسنانها"، لأنها كانت وحيدة تمامًا. في اليوم التالي، قررّت التوجه إلى المحكمة لتقديم شكاية ضدّ الأب، في خطوة جريئة وغير مألوفة في مجتمع قبليّ تتمتّع فيه العائلة بسلطة مطلقة على الفرد، وخاصّة على النّساء. بعد ثلاث سنوات من التردّد على المحكمة، عجز القانون عن إنصافها وإثبات الأبوّة. وفي لحظة يأس، ألقت بفاضمة في نافورة ماء متجمّد، لكنّها لم تفارق الحياة؛ فسرعان ما تراجعت الأم عن فعلتها واحتضنت ابنتها، محاولة تدفئتها بين ذراعيها.
عانت الأمّ الأمرّين لحماية فاضمة من الاعتداءات التي تعرّضت إليها من أطفال القرية. في أحد الأيّام، اضطرت إلى إزالة أشواك الصبّار من جسد ابنتها العاري. وظلّت نظرات الاحتقار والامتعاض تلاحق الطّفلة وأمّها وتُروَى حكايتهما وتتناقلها الألسُن، حتى أصبحت حديث جميع سكّان القرية. أمام هذه الظروف، لجأت الأمّ إلى منزل الراهبات في واضياس، إحدى المدن القبائلية الجزائرية التابعة لولاية تيزي وزو، بحثًا عن ملاذ آمن لابنتها. لكن داخل منزل الراهبات، تعرضت فاضمة إلى أشكال قاسية من الإذلال، إذ أجبرت على الاستحمام في الوحل، ورُبط وعاء مملوء بالفضلات حول عُنقها، وغطّت آثار السوط والحبال جسدها الصغير. إزاء هذه المعاناة والظروف القاسية، لم تجد الأمّ خيارًا سوى أن تلتحق ابنتها بإحدى المدارس الفرنسية لحمايتها من الخطر المُحدق بها.
من المفارقات الملفتة في القصّة أنّ العلاقة بين الأمّ وابنتها، التي بدت وثيقة جدًا خلال فترة الطفولة، قد انقطعت تقريبًا بعد زواج فاضمة وسفرها إلى تونس. وفي آخر لقاء جمعهما عام 1912، أفصحت الأمّ لفاضمة عن شعورها بأنها الضحية الأولى لـ"بليّة" ميلادها، إذ رأت أنّ ذلك كان السبب وراء انفصالها عن عائلتها للأبد.[9]
"قصّة حياتي".. مادّة تاريخية وأنثروبولوجية
يأخذنا الكتاب في رحلة عبر الزّمن إلى حقبة من تاريخ الجزائر نادرًا ما نجد حولها هذا الكمّ من التفاصيل الدقيقة، لا سيما تلك المتعلقة بالحياة اليومية في المجتمع القبائلي خلال فترة الاستعمار الفرنسي. تُعدّ هذه السيرة الذاتية كنزًا ثمينًا لكل المهتمّين بالدراسات الاستعمارية والنسوية، فهي ليست مجرّد سرد روائي لحياة فاضمة بقدر ما هي توثيق تاريخي للتراث المادّي وغير المادّي للمنطقة، بالإضافة إلى استعراض كيفية توزّع الأدوار الاجتماعية بين النساء والرّجال. كما يتضمّن الكتاب ما تتذكّره فاضمة من الحكايات والأساطير التي تناقلها السكّان، ورَوَتْها الجدّات لأحفادهنّ، وهي قصص تمثّل جزءًا من المخيال الشعبي الجزائريّ في منطقة القبائل.
تصف فاضمة بدقة متناهية الأدوار اليومية والموسميّة التي تقوم بها النساء، والتي ترتبط بشكل أساسي بالأرض والطبيعة وخيراتها، وهي مشاهد من الحياة اليومية التي بقيت عالقة في ذاكرتها منذ طفولتها. يُخيّل للقارئ أنّه يشاهد النسوة وهنّ يشكّلن الطين لصناعة الأواني الفخّارية لبيعها في الأسواق الأسبوعية، ويُعددن المؤونة من خضروات مجففة ودقيق وزيت، ويجززن صوف النعاج والخراف ثمّ ينقعن الصوف ويغسلنه، لاستخدامه لاحقًا في صناعة الأغطية والملابس.
تتذكر فاضمة أيضًا ذهاب نساء القرية في مجموعات لأداء مهامهنّ خلال مواسم قطف "الثاغنيمت،"[10] والعنب، وجني الزيتون، وهي فرصتهن الوحيدة للظهور أمام الرّجال الغرباء بكامل زينتهن، مرتديات الحلي القبائلي و"البابوش."[11] تصف الكاتبة، بكثير من الحنين، الفترات التي قضتها في أحضان الطبيعية الخلّابة التي تتميز بها قرى منطقة القبائل، تلك الأماكن التي كانت ملاذًا لها كلما شعرت بقسوة الحياة.
يتطرّق الكتاب إلى الامتيازات الاجتماعية التي يتمتّع بها الرّجال مقارنة بالنساء في المدن القبائلية. إذ تقضي النساء معظم أوقاتهنّ في أداء الأعمال المنزلية، بينما يُحرمْن من فرصة التّعلّم لأنّهنّ "جميلات ... وسيتزوجن!"، في حين كان التعليم إجباريّا للذكور.[12] كما يمنع أغلب الآباء بناتهم من التعليم خوفًا من "جلب العار" للعائلة وحماية لهنّ من الوصم الاجتماعي، ويحذر معظم الرجال من المرأة المتعلّمة ويمتنعون عن الزواج بها. علاوة على ذلك، تعتنق الكثير من الفتيات اللاتي تلتحقن بالمدارس الفرنسية الدين المسيحي "تأثّرًا بالرّاهبات"، وهو سبب إضافي لمنعهنّ من التعليم.
تُعدّ فاضمة من النساء القلائل اللاتي تمكّنّ من الالتحاق بمدرسة بمدينة فورناسيونال، التي تعرف اليوم باسم "الأربعاء ناث إيراثن." وبعد حصولها على الشهادة المدرسية، بقيت لمدّة طويلة في المنزل حيث لم تجد عملًا ولم يتقدّم أحد من أهل قريتها لخطبتها بسبب "ماضيها". في إحدى لحظات اليأس، تساءلت عن الفائدة الحقيقية التي جنتها من التعليم: "لماذا كلّ هذا التّعب؟ لماذا هذه المعاناة؟ ماذا سأستفيد من هذا الأمر؟"[13] وقرّرت بعدها أن تعيش مثل بقية نساء قريتها وأن تتعلّم الطبخ وتنظيف المنزل، وقالت: "كان لا بدّ أن أنسى بأنني مُتعلّمة."[14] ما يميّز هذه السيرة الذاتية هو المصداقية الشديدة التي روت بها فاضمة آث عمروش قصّتها، فهي لم تُخْف لحظات اليأس والإحباط التي مرّت بها، وأفصحت بكلّ صراحة كيف أصبح التّعليم، في مرحلة ما، عائقًا اجتماعيًا في حياتها.
تتحدث فاضمة في الفصل الثاني من الكتاب عن عائلة زوجها والمجتمع القبائلي الذي يتزوّج فيه الرجل بأكثر من امرأة ولا يحقّ للنساء الاعتراض على ذلك، رغم أنّ جميع الزوجات يعشن في منزل واحد. فقد طبّق رجال عائلة "آث عمروش" شعار "امرأة واحدة لا تكفي" بامتياز، باستثناء زوجها "بِلْقاسم"، لأنّه كان مسيحيًّا مثلها. "قائد العائلة وسيّدُها" هو الجدّ حسّان أو عمروش، الذي تزوج عشرات المرّات؛ وسار ابنه أحمد أو عمروش، وهو حما فاضمة، على خطى أبيه فتزوّج جوهرة ومقدودة، وتجليليث وزُهْرة، وأراد حتى أن يتزوّج خطيبة ابنه بلقاسم في وقت ما. كانت جوهرة أكثرهنّ غيرة على زوجها، واتّبعت جميع أساليب السّحر والشّعوذة لتزيح زهرة، أكبر منافسة لها. وفي أحد الأيّام، وضعت عظمة جثّة تحت فراشه لتجعل قلبه تجاه زهرة جامدًا مثل الجثّة، لكن انتهى به الأمر إلى تطليق جميع زوجاته باستثناء زهرة.
في تونس: من منزل إلى آخر
في فبراير/ شباط من عام 1909، انتقلت فاضمة إلى تونس بسبب تدهور أوضاع زوجها الماديّة وعجزه عن إيجاد عمل في الجزائر. ظنّت فاضمة أن انتقالها سيجلب الاستقرار وتحسّنًا في ظروفها المعيشية، لكنها وجدت نفسها متنقلة بين أكثر من خمسة منازل، بدءًا من شارع الجزائر وصولًا إلى استقرارها في شارع "لارفيير" عام 1918. لم تشعر فاضمة بالاستقلالية أو الراحة في أيّ من تلك المنازل. فقد كانت مضطرّة للعناية بحماتها واستضافة أفراد من قريتهم في بلاد القبائل، إذ يُعدّ ذلك جزءًا من ثقافتهم وواجبًا لا يمكن للنساء الاعتراض عليه أو التهرّب منه.
قضت فاضمة أربعين سنة كاملة في تونس، لكنها لم تتمكن من بناء علاقات صداقة متينة، إذ لم تكن تُجيد سوى اللغة الفرنسية واللهجة القبائلية. لم تشعر بالحريّة التّامّة عند مغادرتها المنزل، فقد اعتُبرت امرأة غير عفيفة لأنها كانت تخرج كاشفة عن شعرها ووجهها وتخالط "الرّوميين."[15] بذلك، خالفت مجددًا الضوابط الاجتماعية السائدة في مجتمع ثان كان أغلبه من العرب والأمازيغ. لم تشعر فاضمة يومًا بالانتماء إلى تونس، وظلّت تحنّ بشدة إلى أصولها الأمازيغية، فتقول: "بقيت تلك المنفية الأبدية التي لم تحسّ يومًا أنها في منزلها أينما حلّت."[16] وتضيف: "كم أتمنى السير وراء الأرواح.. إلى البلاد التي تهرب إليها."[17]
أنجبت فاضمة العديد من الأطفال وأرادت تكوين عائلة ممتدّة، لكنّ أمنيتها لم تتحقّق إلا لسنوات قليلة. فقد توفّي أطفالها "بول" و "نويل" و"محند صغير" و "هنري" في فترات متقاربة بسبب المرض، والذين عانت كثيرًا في تربيتهم، وطردها الكثير من مالكي المنازل في تونس بسبب " كثرتهم". بقي من أبناء فاضمة رمزان من رموز الشعر والرواية الجزائريّة "جون الموهوب عمروش"، وطاووس آث عمروش."[18] كتبت فاضمة خمس قصائد رثاء في زوجها وأبنائها باللغة الفرنسية، معبرةً عن حزنها العميق لفقدانهم، فتقول:
"أنا مثل الغريب الذي اخترقته رصاصة
أذرف الدموع ليلًا ونهارًا
وحزني العميق لا علاج له".[19]
إرث قبائلي ورمز من رموز الشعر والرواية
إنّ ما أضاف الكثير إلى الكتاب هو أصول المترجمة الجزائريّة، التي كانت على دراية عميقة بالخلفية الثقافية والاجتماعية، وحتى التاريخية، للمدن القبائلية. فقد أوردت "فاضمة آث عمروش" العديد من الأسماء والمفردات باللّهجة القبائلية، فحرصت المترجمة على توضيح معانيها بدقّة للقارئ. ومن المثير للاهتمام أن نجد ترجمة عربية لإرث قبائلي ثريّ شارف على الاندثار، خصوصًا إذا تعلّق الأمر بروائية وشاعرة وأمّ لاثنين من أبرز الشعراء الجزائريين. أظهر الكتاب العديد من المشاهد التي كنّا نجهلها عن الحياة القبائلية، وركّز بشكل خاص على الحياة اليومية للنساء، وضيق مجال ممارستهنّ لحريّاتهنّ في التعلّم، والتنقّل والعمل.
بالختام، يظلّ كتاب "قصّة حياتي" بوّابة لاستكشاف حياة النّساء القبليّات، بما تحملها من ألم وصمود، وسعي نحو إثبات الذّات، وهو ما يجعله أيضًا شهادة حيّة على تحوّلات المجتمع القبائلي الذي وقع تحت وطأة الاستعمار وتقاليده المجتمعية الرّاسخة.